تواجه الحكومة الإسرائيلية برئاسة بنيامين نتنياهو، حاليًا، حلقة جديدة من الأزمة التاريخية المتجددة لتجنيد المتدينين؛ لكنها تبدو الحلقة الأكثر اضطرابًا منذ وصول هذه الحكومة إلى السلطة فى ديسمبر 2022؛ حيث قرر حزبا «يهدوت هتوراه» (7 مقاعد فى الكنيست) و«نوعام» (مقعد واحد)، منذ منتصف يوليو 2025، الانسحاب من الحكومة والائتلاف، بينما فضّل حزب شاس (11 مقعدًا) الانسحاب من الحكومة فقط، مع البقاء فى الائتلاف، وذلك لمنع الحكومة من الانهيار؛ وهو ما قلّص أغلبية نتنياهو فى الكنيست من 68 مقعدًا إلى 60 مقعدًا فقط.
ومع ذلك، لا يبدو نتنياهو مستعدًا حاليًا للتخلى عن شركائه الحريديم فى الائتلاف الحاكم؛ ومن ثم إسقاط الحكومة والتوجه إلى انتخابات مُبكرة. كذلك لا يبدو أن أحزاب الحريديم تميل إلى إسقاط الحكومة حاليًا، خاصة أن وصول المعارضة إلى الحكم سيحول دون تنفيذ مطالبهم. ومن المُرجح أن الحكومة ستشهد هدوءًا لبعض الوقت، فى فترة العطلة الصيفية للكنيست، والممتدة حتى 19 أكتوبر 2025. وقد تدفع هذه الفترة مختلف الأطراف إلى مراجعة حساباتها؛ مما يجعل مستقبل الحكومة مفتوحًا على أكثر من احتمال.
• • •
تعود جذور أزمة تجنيد المتدينين فى إسرائيل إلى سنوات التأسيس الأولى، حينما منح أول رئيس وزراء إسرائيلى، ديفيد بن جوريون، طلاب المدارس الدينية (اليشيفات)، إعفاءً من الخدمة العسكرية، وتم وضع بند فى قانون الخدمة العسكرية يُجيز لوزير الدفاع إعفاء الأفراد من الخدمة الإلزامية.
فى عام 1998، جرّدت المحكمة العليا فى إسرائيل، منصب وزير الدفاع، من الصلاحية التى اكتسبها عام 1948، وصار غير قادر على إصدار إعفاء شامل لجميع طلاب المدارس الدينية. ولكن تم التحايل على هذا الحكم، من خلال إصدار «قانون تال» عام 2002، والذى سمح للطلاب المتدينين بتأجيل التجنيد العسكرى إلى عمر 23 سنة، وبعد ذلك يمكنهم اختيار أداء خدمة عسكرية قصيرة، أو خدمة وطنية مدنية، أو مواصلة الدراسة الدينية. ولكن قضت المحكمة العليا، مُجددًا، بإلغاء هذا القانون عام 2012.
فى عام 2014، تم تعديل قانون الخدمة العسكرية، بما يسمح بزيادة سنوية تدريجية فى أعداد المتدينين الملتحقين بالجيش الإسرائيلى. لكن فى عام 2015، وتحت ضغوط الأحزاب الحريدية، ألغت حكومة نتنياهو آنذاك هذه التعديلات، بما يسمح باستمرار إعفاء المتدينين من التجنيد. لتأتى المحكمة العليا من جديد عام 2017، وتقوم بإلغاء قانون الإعفاء الأخير، بدعوى عدم دستوريته.
وجاء التحرك التالى من قِبل المحكمة العليا، وتحديدًا فى 26 يونيو 2024؛ حيث قضت بأنه لم يعد بإمكان الحكومة إعفاء الحريديم من الخدمة العسكرية، ولا الاستمرار فى تمويل المدارس الدينية التى لم يُمنح طلابها إعفاءات رسمية. ومنذ ذلك التاريخ، صار الجيش الإسرائيلى مُلزمًا بإصدار إشعارات تجنيد لطلاب المدارس الدينية.
• • •
يرى الجيش الإسرائيلى ضرورة تجنيد جميع طلاب المدارس الدينية، خاصة فى ظل الحروب التى يخوضها حاليًا؛ حيث أشار قادة الجيش إلى حاجتهم الماسة إلى نحو 10 آلاف جندى مقاتل إضافى، ونحو 3 آلاف جندى لمهام أخرى.
وتشير الإحصاءات إلى أن هناك نحو 80 ألف رجل من اليهود المتشددين الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و24 سنة، مؤهلون حاليًا للخدمة فى الجيش الإسرائيلي؛ لكنهم لم يلتحقوا به. وقال إسحاق جولدنوبف، رئيس حزب يهدوت هتوراه، فى معرض حديثه عن تلك الأزمة، إنه إذا تم تطبيق أوامر التجنيد على 54 ألف طالب فى المدرسة الدينية، فلن يكون هناك سلام.
وتصاعدت الأزمة بشكل كبير منذ يونيو 2024، ومع إرسال الجيش إشعارات التجنيد؛ تم تصنيف الآلاف من طلاب المدارس الدينية على أنهم هاربون من الخدمة العسكرية؛ ما يعرضهم لخطر الاعتقال كلما واجهوا الشرطة، ويمنعهم من مغادرة إسرائيل، ويحرمهم من عدة مزايا مالية، على رأسها الحرمان من إعانات رعاية الأطفال؛ وهو ما يضع أسر الحريديم فى ضغوط مالية كبيرة.
ووجّهت الأحزاب الحريدية إنذارين إلى نتنياهو؛ الأول كان فى يناير 2025، حين صرّح أرييه درعى، رئيس حزب شاس، بأنه إذا لم يتم حسم قانون الإعفاء من التجنيد خلال شهرين، سنذهب إلى الانتخابات. والإنذار الثانى كان فى مارس الماضى؛ حيث حدّدت هذه الأحزاب عيد الشفوعوت (1 إلى 3 يونيو 2025)، كموعد نهائى جديد لإقرار قانون الإعفاء.
• • •
بعد استنفاد حكومة نتنياهو للمهل الزمنية التى حددتها الأحزاب الحريدية، دون تقديم نسخة جديدة من مشروع قانون الإعفاء؛ أعلن حزب يهدوت هتوراه، فى 14 يوليو الجارى، انسحابه من الحكومة والائتلاف. وبعد يومين، فى 16 يوليو الجارى، قرر حزب شاس أيضًا الانسحاب من الحكومة، لكن مع بقائه فى الائتلاف، ودون أن يدعم اقتراح حجب الثقة عن الحكومة. وبالنظر إلى انسحاب آفى ماعوز، العضو الوحيد فى الكنيست الذى يمثل حزب «نوعام»، فقد صار ائتلاف نتنياهو مدعومًا بـ60 عضوًا فقط فى الكنيست، بعد أن كان يمتلك 68 عضوًا.
ولا يبدو، وفق حسابات اللحظة الراهنة، أن الأحزاب الحريدية تنوى إسقاط الحكومة الحالية؛ بالنظر إلى أن الحكومة القادمة، خاصة إذا جاءت من المعارضة، لن تخضع لمطالب المتدينين، وتحديدًا فى ملف التجنيد وتمويل مؤسساتهم المختلفة.
فى المقابل، يبدو نتنياهو غير قادر على حسم هذا الملف، أو ربما يرى أن إدارته دون حله هى الخيار الأنسب، فهو لا يرغب فى خسارة شركائه من الأحزاب الحريدية، وفى الوقت نفسه لا يبدو عازمًا على سن تشريع يدينه أمام الرأى العام، ويضعه فى معركة جديدة أمام المحكمة العليا.
لذلك، اتجه نتنياهو إلى كسب المزيد من الوقت، عن طريق إقصاء إدلشتاين من رئاسة لجنة الشئون الخارجية والدفاع بالكنيست، والذى تم تصويره خلال الأشهر الأخيرة على أنه الخصم الأساسى للأحزاب الحريدية فى ملف التجنيد، على أن يكون خلفه أكثر استعدادًا لتقديم تنازلات لم يكن إدلشتاين مستعدًا لتقديمها؛ مما يسمح بالمُضى قدمًا فى مشروع قانون التجنيد.
• • •
وفقًا لمعطيات اللحظة الراهنة، وبالنظر إلى احتمالية تغير حسابات مختلف الأطراف السياسية فى إسرائيل؛ يمكن القول إن هناك ثلاثة سيناريوهات مُحتملة قد ترسم مستقبل حكومة نتنياهو فى ظل أزمة التجنيد، هى كالآتي:
1- اتجاه الأحزاب الحريدية إلى حلّ الكنيست: هو سيناريو مُرجّح حال فشل نتنياهو فى التوصل إلى تسوية مع الأحزاب الحريدية فى فترة العطلة الصيفية للكنيست، وهذا الفشل ربما يؤثر فى مصداقية هذه الأحزاب أمام قواعدها الانتخابية. ووفقًا لهذا السيناريو، قد تدعو تلك الأحزاب، مع عودة الجلسات فى 19 أكتوبر المقبل، إلى حلّ الكنيست.
2- تسوية الأزمة واستمرار الحكومة حتى نوفمبر 2026: تعتمد فرص تحقيق هذا السيناريو على نجاح نتنياهو فى استغلال فترة العطلة الصيفية للكنيست، لتسوية الأزمة مع الأحزاب الحريدية وترتيب قانون جديد للتجنيد، وربما يكون إقصاء إدلشتاين عاملًا مساعدًا فى هذا الصدد.
ويبدو أن ثمة قناعة بين أوساط المراقبين فى إسرائيل أنه سيكون من الصعب وضع قانون جديد للتجنيد يُرضِى الحاخامات، وفى الوقت نفسه يجتاز تدقيق المحكمة العليا؛ لذلك ربما يُركز نتنياهو جهوده على حزب شاس، الذى يمتلك 11 مقعدًا فى الكنيست، خاصةً أن زعيم الحزب، أرييه درعى، مُقرّب من نتنياهو، ويُعد أكثر براغماتية من نظرائه فى حزب يهدوت هتوراه.
3- ذهاب نتنياهو إلى انتخابات مُبكرة بإرادته الشخصية: قد يصل نتنياهو فى مرحلة ما إلى قناعة بصعوبة تسوية أزمة تجنيد الحريديم، ويحاول الفكاك من الضغوط التى تمارسها عليه الأحزاب الحريدية من جهة، وأحزاب اليمين المتطرف من جهة أخرى. وهنا ربما يكون خيار الانتخابات المُبكرة هو الحل المُتاح.
وربما يكون مخرج نتنياهو الوحيد لضمان نجاح سيناريو الانتخابات المُبكرة، هو إقناع خصمه نفتالى بينيت، رئيس الوزراء الأسبق، وزعيم الحزب الجديد «بينيت 2026»، والذى بات يلاحق حزب الليكود بشراسة مؤخرًا؛ بتشكيل حكومة وحدة وطنية. وهذا أمر نجح فيه نتنياهو سابقًا، بعد انتخابات الكنيست فى مارس 2020، حينما شكّل حكومة وحدة مع خصمه السياسى آنذاك، بينى جانتس، رئيس تحالف كاحول لافان سابقًا ورئيس حزب المعسكر الوطنى حاليًا.
إجمالًا، وفقًا للسيناريوهات السابقة، قد تستمر حكومة نتنياهو حتى يناير 2026، وربما تستمر أبعد من ذلك حتى موعد الانتخابات المقبلة فى نوفمبر 2026، وقد يعود نتنياهو مرة أخرى إلى مقعد رئيس الوزراء فى الانتخابات المقبلة؛ فالأزمة الحالية تجعل مصير هذه الحكومة مفتوحًا على كل الاحتمالات. كذلك قد تكون مسارات الحرب على قطاع غزة، أو عودة التصعيد العسكرى مع إيران مُجددًا؛ عوامل مؤثرة؛ فإما أن تُطيل أمد الحكومة الحالية، أو تُعجّل برحيلها.
محمد محمود السيد
مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة
النص الأصلي
https://tinyurl.com/4y7mf9x2