إنه صراع على المستقبل، لا صدام فى الماضى. هذه حقيقة مساجلات كل عام، التى تعاود إنتاج نفسها فى ذكرى ثورة 23 يوليو. التصويب غير الطمس، والنقد غير التشهير.
القضية ليست «جمال عبدالناصر»، فقد رحل قبل 55 عامًا، ولا ثورة «يوليو» نفسها، فقد انقضت أيامها بعد أحداث 15 مايو 1971. موضوع الحملات هو اغتيال المشروع الوطنى الذى جسّدته «يوليو». قوة أى مشروع فى قدرته على بناء أفكار وتصورات وسياسات جديدة وفق قيمه الرئيسة بالنقد والتجديد والإضافة، وإلا فإنه يدخل فى موت سريرى لا قومة منه.
أهم قيم مشروع «يوليو»: استقلال القرار الوطنى، وانتماء مصر العربى، والانفتاح على العالم الثالث وقضاياه، والعدالة الاجتماعية، ومناهضة التبعية فى السياسة والاقتصاد.
تختلف المقاربات والسياسات باختلاف العصور.
اكتسبت «يوليو» قوتها من تفاعلها مع حقائق عالمها، تحدّت، وحاربت، واجتهدت، وأصابت، وأخطأت، وانتصرَت، وهُزمَت، وهذا كله يحتاج إلى مراجعة لمواطن القوة والضعف فى أهم تجاربنا الحديثة.
استوعب «عبدالناصر» فى مشروعه أفضل ما كان مطروحًا من خيارات عصره، فدمج التحرر الوطنى بالالتزام القومى العربى، وبفكرة التغيير الاجتماعى والانحياز إلى الطبقات الفقيرة.
كانت العدالة الاجتماعية صلب قاعدة شرعيته، حيث تعلقت باحتياجات البشر فى الصحة والتعليم والخدمات الأساسية، وقبل ذلك الحق فى العمل، وفى عائد الناتج القومى، أن يكون الإنسان كريمًا فى وطنه وآمنًا على مستقبله.
وكانت توجهاته العروبية أفق حركته فى محيطه.
أى توجهات تكتسب قيمتها من مستويات التزامها.
هناك حاجة حقيقية، على مستوى الفكر، إلى دمج قيم التعددية، والديمقراطية السياسية، وحقوق الإنسان، لا تحتمل أى التواء، فى صلب المشروع الوحدوى العربى.
قيم المشروع وحدها هى التى تربط بين الإرث والمستقبل، حتى يكون ممكنًا أن يقف من جديد على أرض صلبة.
لا تمثل «يوليو» نظرية يُقاس على نصوصها، بقدر ما تُلخّص مشروعًا يُقاس على قيمه.
إنكار العدالة الاجتماعية انتقاص من فكرة الحرية نفسها.
الكلام المُرسل عن العدالة الاجتماعية أثناء ثورة «يناير» سهّل على الأيدى الخفيفة أن تلتقطه، وتذهب به إلى حيث تريد.
عندما افتقدنا تراكم التاريخ، خسرت فكرة الثورة اتصالها بحقائق مجتمعها وتاريخها، وأفقدت نفسها مرجعيات تُرشد دعوتها إلى العدالة الاجتماعية من واقع تجربة مصرية معاصرة وملهمة.
من طبائع الأمور أن تختلف التقديرات السياسية بشأن الأحداث الكبرى، وأدوار الثورات، وإرثها فى حياة الشعوب، غير أنه لا يصح أن تمضى بعض التقديرات إلى حد إهدار الذاكرة الوطنية، وإطلاق أحكام تفتقر إلى أدنى احترام لوقائع التاريخ الثابتة، مستبدة بها ثارات تاريخ أو أفكار.
ما حدث بالضبط أن الانقلاب على «يوليو»، وشرعيتها، وخياراتها الاقتصادية والاجتماعية والاستراتيجية، لم يلحقه انقلاب على طبيعة النظام السياسى، بصورة تسمح بانتقال واسع إلى دولة مؤسسات حقيقية، يحكمها القانون والتوازن بين السلطات.
كأى نظام ثورى، فهو فعل استثنائى انتقالى، قاد أوسع عملية تغيير فى البنية الاجتماعية، وأخرج طبقات رئيسة إلى الحياة وتطلعاتها فى التعليم والصحة والرعاية الاجتماعية وحقوق العمل وتكافؤ الفرص، وخاض فى الوقت نفسه معارك مفتوحة فى إقليمه وعالمه، ودخل حروبًا طاحنة فى الصراع على المنطقة.
لا يصح أن نُحاسب الثورات بغير قوانين حركتها، أو بأهداف غير التى تبنّتها، أو خارج السياق الذى عملت فيه، والعصر الذى احتضن تفاعلاتها.
بعض ما يتردد الآن من تشهير بـ«يوليو» ينطبق عليه تمامًا ما كتبه المفكر والناقد الأدبى الراحل الدكتور «لويس عوض» فى كتابه أقنعة الناصرية السبعة، من موقع النقد والاختلاف، لا الدفاع والاتفاق.
حين بدأ السجال يحتد داخل مصر، والحملات تأخذ مداها بين عامى 1974 و1975، كان يعمل أستاذًا زائرًا بجامعة كاليفورنيا (لوس أنجلوس).
«كنت فى أوقات متباعدة ألتقى فصائل من المصريين تقيم حفلات الحقد المستمر على عبدالناصر والناصرية، وتردد كل سخافة تقرؤها فى الصحف الأمريكية، فإذا رأت أن الجرائد الأمريكية تهلل لأن فايز حلاوة كتب مسرحية اسمها «يحيا الوفد تسب الروس»، مجدت فايز حلاوة دون أن تعرف شيئًا عن مسرحياته».
«وكنت أهتم بأن أسأل هؤلاء النازحين هذه الأسئلة المحددة: هل صادر عبدالناصر لك أو لأسرتك أملاكًا؟ فيقول: لا. هل سجنك عبدالناصر أو سجن فردًا فى أسرتك يومًا واحدًا؟! فيقول، من يحاسب الناس وهو فى أمريكا: لا. ففيم إذًا هذه المرارة ضد عبدالناصر؟ إنه خرب البلد بالقطاع العام والتبعية للسوفييت. كل ما فعله عبدالناصر دميم وينبغى نقده. حتى السد العالى ينبغى هدمه».
«كانت وجوههم مصرية وقلوبهم غير مصرية».
أهمية هذه الشهادة فى صاحبها، وأنه أدلى بها وهو يقف على الجانب الآخر من التجربة الناصرية، وفى معرض نقده لها.
ربما أراد أن يضع نفسه فى حيز مختلف، حتى لا تختلط وجوه ومواقف كأنها واحدة.
«للناصرية اليوم، وبعد وفاة صاحبها، نقّاد بلا عدد، ولكن لا تجوز مناقشة بعضهم لأنهم مجردون من الشرف الوطنى، أو من الشرف الشخصى» – كما كتب حرفيّا.
القضية ليست الاتفاق على قراءة واحدة للتاريخ، فهذا مستحيل تمامًا. القضية أن تكون هناك موضوعية فى القراءة، حتى يمكن أن يتحدد مجرى رئيسى للنقاش العام، يساعد مصر على استيعاب أهم تجاربها السياسية، وتجديد مشروعها، الذى هو المشروع الوطنى والقومى المتجدد وفق احتياجات العصور الجديدة.