بعد غدٍ ينتهي عام ٢٠٢٣ ونطوي صفحته لنبدأ عامًا جديدًا نرجو من الله أن يكون أفضل من العام الحالي، فجرعة الألم في الشهور الثلاثة الأخيرة كانت مكثّفة. كتبتُ كثيرًا في هذا المكان عن حبي لنهاية العام الميلادي، وعن سعادتي بالأجواء المبهجة التي تصاحبها وتجعل من العالم كله قرية واحدة صغيرة. وعلى امتداد حياتي اختلف شكل احتفالي برأس السنة اختلافًا كبيرًا فالسّن له أحكام. في أول زواجي سيطرَت علىّ فكرة الخروج مع زوجي للاحتفال برأس السنة في مكان عام، وكان ذلك نوعًا من التأكيد على القطيعة مع فترة ما قبل الزواج عندما كان يستحيل طرح فكرة الاحتفال برأس السنة خارج المنزل، كان أخواي يخرجان ويعودان في وقتٍ متأخّر بينما أجلس مع أبوّي لمشاهدة احتفال التلڤزيون بالعام الجديد. وبالتالي فعندما فكّرت في احتفال من نوع مختلف بعد الزواج- كان الغرض من ذلك التأكيد على أن العيال (أنا يعني) كِبرت وأنني أخيرًا ظفرتُ بالمساواة مع أخوّي ولو عن طريق الزواج.
• • •
منذ بداية زواجي وحتى الآن أسكن في حيّ مصر الجديدة، والاحتفال بنهاية العام وبعيد ميلاد السيد المسيح في هذا الحيّ له نكهة شديدة الخصوصية تناسب تركيبته السكانية المتنوّعة. يكفي أن نعرف أن الحي يزخر بكنائس أرثوذوكسية وكاثوليكية وبروتستانتية، وبالتالي فما أن ينتهي الاحتفال بميلاد السيد المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام لدى الطائفة الكاثوليكية، حتى تأخذ الطائفة الأرثوذوكسية في الاستعداد للاحتفال بنفس المناسبة، وبين الاثنين تختار الطائفة البروتستانية موعدًا للاحتفال السنوي بالعيد الصغير حتى تضمن أوسع حضور ممكن. لدى الطبقات الشعبية لا توجد تفرقة بين رأس السنة الميلادية في نهاية ديسمبر وميلاد المسيح في ٢٥ ديسمبر أو في ٧ يناير، وزمان كانت لديّ معاونة في أعمال المنزل من حيّ الدويقة، وكانت تصّر على الحصول على إجازة يوم ٣١ ديسمبر للاحتفال مع زوجها بالـ"كُرُستُم"، وتتعامل مع هذا العيد تعاملها مع عيد شمّ النسيم تمامًا، بمعنى الخروج فيه لقضاء الصباح في أي حديقة عامة. ولم أحاول قط تغيير الصورة الذهنية لمعاونتي عن الكريسماس ورأس السنة، بل أعترف إنني كنت أنتظر دائمًا منها أن تأتي لتطلب إجازة "الكُرُستُم" فأضحك في سرّي وأجيبها إلى طلبها.
• • •
المهم في أول سنة زواج قرأتُ في أحد الإعلانات الصحفية عن احتفال بالعام الجديد في إحدى الڤيلات الكبيرة في شارع العروبة بمصر الجديدة، وذلك في مقابل اشتراك مالي قيمته كذا(نسيت القيمة). عرَضت الفكرة على زوجي وحاول إثنائي عنها بكل الطرق، لكنني تمسكّت بها دون إخباره بالغرض السامي من وراء إلحاحي في الخروج في هذا اليوم، وهو تأكيد أنني أخرج ليلة رأس السنة كما كان يفعل أخواي، وأنه لا يوجد حدّ أحسن من حدّ. تأنّقنا وتعطّرنا واستأجرنا تاكسيًا لأننا لم نكن نملك سيارة بعد، واتجهنا للڤيلا إياها ونحن على سنجة عشرة كما يقولون، ثم دلفنا من الحديقة إلى الداخل. ما ههههههذا؟ لم يكن المكان يشبهنا في شيء أو الأدّق نحن الذين لم نكن نشبهه فنحن الذين جئنا إليه ولم يأتِ هو إلينا. قفز إلى ذهني مقطع من أوبريت في فيلم صغيرة على الحب تقول فيه سعاد حسني "بقى هي الدنيا كده.. بقى هما الناس كده.. ياخسارة فرحتي يا خسارة ضحكتي.. يا مين ياخدني تاني يرجعني لدنيتي". وحتى تكتمل الصورة اكتشفنا أن مائدة الطعام العامرة التي أشار إليها الإعلان لم تكن إلا وهمًا كبيرًا، فغادرنا المكان من فورنا محبطين وجائعين. وفي طريق العودة تعمّدتُ ألا تلتقي نظراتي بنظرات زوجي أبدًا رغم كل محاولاته للنظر لي في نّن عيني، فلم أكن أجد فائدة في أن ينظر أحدنا للآخر فالرسالة وصلت، وما كان قد كان.
• • •
لم نكرّر هذه التجربة بعد ذلك قط، لكن ظللنا نحتفل سنين طويلة بحلول العام الجديد مع الأصدقاء المقرّبين منّا، مرة أدعوهم أنا للعشاء في بيتنا ومرة أُدعى وزوجي في بيت فلان مرة وبيت علّان مرة أخرى، وهكذا. وشتَان هو الفرق بين هذا الاحتفال الضيّق المحترم واحتفال ڤيلا العروبة إياه. وكان يساعد على إضفاء الأجواء الحميمة على الاحتفال أن مجموعتنا كانت متجانسة جدًا: نفس الخلفية الاجتماعية، نفس التعليم. وكنّا نتعاون نحن الزوجات في إعداد المائدة العامرة، وأحيانًا كانت كلُ منّا تتولّى تجهيز طبق تَبرَع في صنعه، وهي عادة صارت تُعرَف لاحقًا بالـ dish party وإن كنت لا أذكر أننا استخدمنا هذا المصطلح على أيامنا. وعندما صار لنا ولأصدقائنا أبناء- تَصَاحَب الأبناء وكانوا يشاركوننا الاحتفال على طريقتهم باللعب بشخصيات هذا الزمان من أمثال جريندايزر وهيمان للأولاد وعروسة باربي للبنات. وعادةً ما كنّا نقضي ساعات ما قبل تعانق عقربّي الساعة في مشاهدة فيلم جديد أو مناقشة موضوع عام، وهو نفس ما كان يحدث في زياراتنا العادية المتبادلة على مدار السنة، بحيث إن الاختلاف الوحيد كان يتعلّق بالمناسبة: بداية عام ميلادي جديد.
• • •
بالتدريج تفرّقت السبل بنا نحن الأصدقاء، بعضهم انقطَعَت عنّا أخباره ولم نعد نعرف عنه شيئًا، وقصّرنا نحن في السؤال. بعضهم الآخر تَدَروَش وبات يستهجن الاحتفال بقدوم عام جديد ويراه تشبّهاً بالغرب حتى لو اتخذ هذا الاحتفال شكل لقاءٍ بسيطٍ بين الأصدقاء. ثم أن هناك أصدقاء قد فارقونا إلى السماء وأخذوا معهم جزءًا من أرواحنا مع صعود أرواحهم إلى بارئها. وفي الوقت نفسه شعرنا بمرور الوقت بأن الاحتفال برأس السنة استنفد الغرض منه، وكل عادة تأخذ وقتها وتذهب بشكلٍ طبيعي. ثم أن هناك القلق من برد ديسمبر، والكسل الذي يهيئ لنا أن الخروج من المنزل في العاشرة مساءً في الشتاء وكأنه مهمة لا أثقل منها، هذا بالإضافة إلى وجود احتمال العناية بالأحفاد في تلك الليلة حتى يقضي آباؤهم وأمهاتهم وقتًا سعيدًا خارج المنزل، وهكذا صرنا نتعامل بشكلٍ مختلف مع ليل الحادي والثلاثين من ديسمبر. يسدل الليل أستاره فنغيّر عوائدنا اليومية قليلًا، وبالنسبة لأسرتي يتمثّل هذا التغيير في تقليل جرعة الأخبار السياسية التي تتلقاها عبر الفضائيات من أجل إفساح مجال أكبر لمتابعة فقرات الاحتفال بالعام الجديد، تمامًا كما كان يحدث أيام زمان، ويقولون في المثل الشعبي إن آخرتنا زي أولتنا. نطلب بيتزا بالأربعة أجبان، وندفئ الغرفة قدر المستطاع ونتسلّح بقِربة المياه الساخنة، ولا بأس أبدًا من تدليل أنفسنا بفنجان قرفة باللبن أو سحلب بالمكسرات. نكتب على شاشة الموبايل عبارة كل عام وأنتم بخير ثم نضغط على زر إرسال للجميع، وننتظر أن ينهمر علينا سيل الرد: وأنتم بكل خير وصحة وسعادة.