لقد تأخرت الجهات المسئولة فى الدولة فى اتخاذ قرار منع صلاة الجماعة، وصلاة الجمعة فى المساجد، وكذلك منع أداء القداديس فى الكنائس، بجميع طوائفها، وذلك يرجع لأسباب متعددة، من أهمها أن القرار تُرك لغير أصحابه، فنحن نرى أن مثل هذا القرار هو سياسى قبل أن يكون دينيا، وهذا ما حدث بالفعل فى المملكة العربية السعودية، فقد اتُخِذ قرار منع الصلاة فى الحرمين فى مكة، وفى المدينة المنورة، وكذلك أداء العمرة ــ سواء من الداخل أو الخارج ــ بقرار سياسى، وهم فى ذلك على حق، لأن العلم لا يمكن أن يتعارض مع الدين، ولو حدث ذلك فلابد وأن هناك تقصيرا، أو سوء فهم من قبل رجال الدين فى تفسير النص الدينى، لأن أهم مقاصد الشريعة الإسلامية، وبالمثل كل شرائع الديانات الأخرى، هو الحفاظ على النفس البشرية، فلا نجد شريعة أيا كانت ــ سماوية أو وضعية ــ تهمل فى أرواح الناس، إلا إذا كانوا من المشعوذين والمتطرفين والجهلاء والمنافقين وتجار الدين! ولعل قرار بابا الفاتيكان بإقامة صلاة الأحد عبر الفيديو بالإنترنت، بسبب كورونا، فيه تأكيد على قولنا.
***
لم نر معارضين لمنع الصلاة فى المساجد، وفى الكنائس، لمحاربة انتشار الوباء، من أجل جلب المصالح ودفع المفاسد، إلا من فئات متطرفة كالإخوان والسلفيين والمتصوفين والمشعوذين، وكذلك من بعض شيوخ يروجون لمفاهيم سطحية وبالية، كأحد المسئولين الذى قال فى خطبة الجمعة: «الأعمار بيد الله، ومحدش بيموت ناقص عمر»!، والسلفيون الذين اعتبروا فيروس كورونا «جند من جنود الله»! والصوفيون الذين صمموا على الاحتفال بمولد السيدة زينب، رغم قرارات منع التجمع، وفعل مثلهم أسقف أسيوط الذى تحدى ــ أمام رعاياها ــ قرارات منع الصلاة، بقوله: «هنصلى فى الكنيسة من قلبنا.. كورونا مش حتقرب مننا»!، تلك شعارات خادعة لدغدغة مشاعر البسطاء، ونتائجها مدمرة!
ومن ناحية أخرى، نحن نرى أن الجهات المسئولة عن اتخاذ مثل هذه القرارات الصعبة والنادرة، التى ربما لا نجد لها مثيلا فى تاريخ البشرية، هى التى غابت أو غُيّبت أو تأخرت عن دورها، هما اثنتان لا ثالث لهما:
الأولى، هى السلطة التنفيذية ممثلة فى الحكومة، أى مجلس الوزراء الذى يملك من المعلومات والحقائق ما لا يعلمه الكثيرون، وهى المنوطة بذلك بحكم وظيفتها، وقدراتها، ولأن قرارهم سيكون مدعما بالوثائق والبراهين العلمية والعملية.
والثانية، هى السلطة التشريعية، أى البرلمان، فهو المكلف بمناقشة مثل هذه الأوضاع، وذلك لما له من سلطات تسمح له بالاطلاع على كل الحقائق حتى السرية منها، ولديه أيضا لجان متخصصة فى كل مجالات الحياة، ولا سيما ــ فى هذا الشأن ــ «اللجنة الدينية» التى يمكنها أن تستدعى من تشاء من المتخصصين، ومن علماء الدين والفقهاء، للاسترشاد بآرائهم، ومن هنا يستطيع البرلمان، بناء على توصيات لجنته، وبعد مناقشتها، أن تنصح، أو تأمر السلطة التنفيذية باتخاذ القرار المناسب، أو تمنعها من تنفيذ القرار غير المناسب لمصلحة الشعب الذى يمثله.
ولكن ما رأيناه فى هذا الشأن أن الأمر ذهب لغير أصحابه، فأظهر تردد الحكومة فى اتخاذ القرار المناسب والسريع الذى يحمى الأمة، لقد تم مناقشة هذا الأمر ــ فى بدايته ــ من ثلاث جهات، أظهرت تباينات وتعدد فى قراراتها، وهى مشيخة الأزهر، ودار الإفتاء، ووزارة الأوقاف، فكان يجب أن يجتمع ثلاثتهم برعاية فضيلة شيخ الأزهر، ويصدروا بيانا موحدا، يُبين وحدة الرأى، وكذلك كان يجب على الكنائس المختلفة (الكاثوليكية، والأرثوذوكسية، والإنجيلية) أن تجتمع وتتوحد على موقف واحد، فى وقت واحد، على أن تكون آراء الجميع استشارية، واسترشادية للسلطتين التنفيذية والتشريعية.
***
إن السجال الدائر بين الدين والعلم، خاصة فى النواحى الطبية، هو قديم، فى المجتمعات الشرقية، قدم الأزل، عبّر عنه أديبنا الكبير يحيى حقى (1905 ــ 1992) فى روايته «قنديل أم هاشم» (1940)، فقد ناقش فيها هذه القضية، وكأنه يعيش بيننا الآن، والرواية تم إنتاجها سينمائيا فى 1968م، بسيناريو لصبرى موسى، وإخراج كمال عطية.
تحكى الرواية قصة الشاب اسماعيل (شكرى سرحان) الذى يعيش مع أسرته، فى حى السيدة زينب، يسافر لدراسة الطب فى ألمانيا، حيث تعلم أصول الحياة الحديثة، المبنية على العلم، بعيدا عن الخرافات، ثم يعود ليعمل طبيبًا للعيون، ويفتتح عيادة فى نفس الحى، ويكتشف أن مرضاه لا يشفون من أمراض الرمد، وأن السبب هو استخدامهم قطرات من زيت قنديل مسجد السيدة أم هاشم، كما يكتشف أيضًا أن خطيبته فاطمة (سميرة أحمد)، تعالج بنفس الأسلوب، فيحطم قنديل المسجد، وينفَض عنه مرضاه، وأهله، لاعتقادهم أنه يهاجم، ويتحدى معتقداتهم الدينية!
ولكن الدكتور إسماعيل عندما أجرى عملية جراحية فى قرنية فاطمة، لم تنجح رغم تدريبه عليها، وتمكنه من أدائها ونتائجها، فقد وجد أن المشكلة ليست فى العملية، ولكن فاطمة فقدت بصرها بسبب آخر، وهو إصابتها بالعمى النفسى (hysterical blindness)، الناتج عن سوء معاملته لابنة عمه، ولاعتقادها ــ هى وأهلها ــ بأن بركة زيت قنديل أم هاشم قد حُرمَت منه، وهنا لا يجد بدًا من عقد مصالحة بين العلم والمعتقدات، فيعود لعلاج فاطمة، مستخدمًا الإيمان والعلم معا، ويكتشف اسماعيل أن العاملَيْن العلمى والدينى مكملان بعضهما لبعض لعلاج المرضى!
فالرواية تناولت العلاقة بين المجتمع التقليدى بعاداته المتبعة جيلا بعد جيل، والحداثة الوافدة من الغرب، فقد وضع الكاتب فى هذه الرواية يده على العديد من الجوانب السلبية الراسخة فى وجدان الشعب المصرى، إن رواية «قنديل أم هاشم» مليئة بالرموز، وبالإسقاطات على أحوال مجتمعنا التى لم تتغير حتى يومنا هذا، فنلاحظ أن «فاطمة» ترمز لـ«مصر»، المصابة بمرض فى عينيها أفقدها النظر، بسبب الجهل، ومعتقدات المشعوذين، وعدم الاهتمام بالتعليم، فمازلنا، حتى اليوم، لا نوقر العلم، ولا نعطيه قدره الحقيقى، ومازال الناس يبحثون عن علاجهم فى الحجامة، وما شابه!
فى بداية الفيلم، يقترح الحاج رجب (أبوإسماعيل) على ابنه صالح بيع فدانَين لإرسال إسماعيل إلى ألمانيا لدراسة الطب، فيُعارضه صالح، وينصحه بتوظيف اسماعيل فى شركة الكهرباء أو المياه، ويقول له: «يابا الفدان أبقالك (...) الناس بتتعلم علشان تجبلها حتة أرض مش علشان تبيع»! فيما يشير إلى أن امتلاك أرض أو بيت أو عمارة هو أفيد من التعليم الذى فى مخيلتهم لا قيمة له فى بناء الأوطان والمجتمعات، أليست هذه هى نظرة بعض المسئولين عن العلم!، هذه النظرة التى أثبتت أزمة فيروس كورونا خطأها، وأن العلم والعلماء والأطباء والمهندسين والمدرسين... يجب أن يكونوا فى مقدمة المجتمع، ويجب أن يحظوا على أكبر رعاية من الدولة.
وفى حوار للدكتور بهجت (سعد أردش) مع زميله الدكتور اسماعيل الذى يسأل الأول عن رأيه فى زرع قرنية لفاطمة ليعود لها نظرها، يقول الدكتور بهجت: «الشعب كله محتاج لعملية زرع القرنية»! هكذا تشير هذه العبارة لحاجة الشعب بأكمله لعودة النظر والرؤية له، ولا سبيل لذلك إلا بالتعليم والتنوير.
***
إن فيروس كورونا قد قلب كل الموازين فى العالم، وكشف عن عوراته، فالعالم ما بعد كورونا لن يكون أبدا مثل ما كان قبل كورونا؛ العالم كله لابد وأن يُعيد تفسير معتقداته ونظرياته وأفكاره، وكذلك معادلاته، فقد تعلم الجميع أن الإنسان قُوّتَه ليست فى امتلاكه للقنابل النووية، ولا فى الطائرات والمعدات الحربية الحديثة الفتاكة، لأن فيروسا ضعيفا، لا يُرى، يمكن أن يدمر البشرية بأكملها، ويقضى على كل حضاراتها، فالتقدم العلمى لابد وأن يتحصن بالأخلاق والقيم والمبادئ والعدالة، لقد أسقَط فيروس كورونا كل جبروت الولايات المتحدة، وأثبت عجزها أمام هذا الكائن الضعيف، لأن ساستها اعتقدوا أن بالقوة وحدها، وبدون أدنى اعتبار للقيم وللعدالة وللقوانين، يمكنها أن تسيطر على أركان العالم، وأن تفرض رأيها، رأينا ذلك فى تحيزها السافر لإسرائيل، حينما ضربت بعرض الحائط كل القوانين، والمواثيق الدولية، باعترافها بالقدس عاصمة أبدية لإسرائيل، وبضم أراضى المستوطنات إلى إسرائيل، فالقوة بدون أخلاق تؤدى حتما للدمار!
وفى مصر، لابد لنا أيضا أن نعيد أولوياتنا، فبناء العقول أهم من أى بناء آخر، ولابد أن يُرد الاعتبار للعلم وللعلماء، فهم حائط الصد المنيع ضد التطرف والجهل والأمراض والخرافات، ولابد وأن يُعاد النظر فى منظومتى التعليم والصحة، وفى ميزانيتهما، فهما عماد الدولة القوية والمجتمع المستقر والناجح، كما لابد من اعتبار الأطباء ومساعديهم الذين لقوا حتفهم وهم يؤدون واجبهم لعلاج المصابين بالكورونا «شهداء»، لهم كل حقوق الشهداء، فهم كانوا جنودا فى معركة أبلوا فيها بلاء حسنا.