لدى عودة الزعيم الفلسطينى الراحل ياسر عرفات «أبو عمار» إلى الأراضى الفلسطينية، فى أول يوليو عام 1994، فى إطار اتفاق أوسلو، كان الشعار المرفوع «غزة أريحا أولا»، عملا بنصيحة الرئيس الراحل أنور السادات عندما قال لحلاقه: «إن عليه الحصول على جزء من دكانه المغتصب ثم التفاوض على الجزء الباقى»، غير أن الرافضين لهذا النهج قالوا لأبى عمار، وقتها، ستكون «غزة أريحا أولا وأخيرا»، قياسا على قراءة دقيقة للسياسات الإسرائيلية الثابتة، وإن تغيرت وجوه منفذيها، والقائمة على تصفية القضية الفلسطينية، ومحو الفلسطينيين من الوجود.
وها هى الأيام تثبت صدق توقعات من قالوا إن «غزة أريحا» ستكون «أولا وأخيرا»، فعلى مدى أكثر من عقدين، تخلص الإسرائيليون من قوى اليسار التى شاركت الفلسطينيين التفاوض، وجاءوا باليمين المتطرف إلى سدة الحكم، وأطلقوا يد بنيامين نتنياهو وعصابته، لالتهام الأراضى وزرع المستوطنات، وقتل وتشريد عشرات آلاف الفلسطينيين وهدم بيوتهم فى الضفة وغزة، بدعم أمريكى سافر.
استغلت إسرائيل كل فرصة لإضعاف الظهير العربى للفلسطينيين، وحرضت حلفاءها الأمريكيين ليل نهار على قلب المنطقة رأسا على عقب، فجاء احتلال العراق، كمقدمة للكوارث التى تلت شعار «الفوضى الخلاقة»، ليعم الخراب والدمار المنطقة، لصالح الكيان الصهيونى فى نهاية المطاف، قبل أن يلقى الرئيس الأمريكى دونالد ترامب بحيلة جديدة أسماها «خطة سلام»، وأطلق عليها الفلسطينيون «صفعة القرن»، وليس «صفقة القرن» كما تعرف فى الإعلام.
الصفعة الأمريكية الجديدة كانت محل رفض فورى من قبل الفلسطينيين، واستدعت اجتماعا طارئا لمجلس الجامعة العربية على مستوى وزراء الخارجية بالقاهرة، والذى صدر فى ختامه بيانا صريحا رفض فيه المجتمعون بدورهم «خطة ترامب» واعتبروها مجحفة ومخالفة للقانون الدولى بشأن القدس، والاستيطان الاستعمارى الإسرائيلى، وقضية اللاجئين، وتوقعوا ألا يكتب للخطة الأمريكية النجاح «باعتبارها مخالفة للمرجعيات الدولية لعملية السلام».
الرئيس الفلسطينى محمود عباس«أبو مازن» الذى طلب بث تلفزيونى مباشرة لجلسة الاجتماع، «حتى تسمع الشعوب العربية كل شىء»، كانت كلماته الأكثر لفتا للانتباه وهو يعرض جملة من الخرائط التى تظهر إلى أى مدى تقلص نصيب الفلسطينيين من مساحة فلسطين التاريخية عبر السنين، وقال: «ما بقى لنا بالضفة وغزة 22%، (...) والآن يريدون أخذ 30% من الضفة ليبقى لنا 11%»، مؤكدا رفضه التنازل عن القدس المحتلة بقوله: «لن أقبل أن يسجل فى تاريخى أننى بعت القدس عاصمتنا الأبدية».
أبو مازن الذى بدت على ملامح وجهه المحن والصعاب التى مرت بالشعب الفسطينى، لم يفوت الفرصة، على ما يبدو، لرد ما اعتبر إهانة من صهر ترامب وكبير مستشاريه، جاريد كشنر، مهندس الصفقة المنحازة لتل ابيب، والذى قال إن القيادة الفلسطينية «سيكون من الصعب عليها لعب دور الضحية وجمع الأموال... عندما يكون أمامها عرض حقيقى على الطاولة».
واعتبر أبو مازن أن «صفقة القرن» صنعها ثلاثة هم: كوشنر «الذى وصفه بـ«الولد»، والسفير الأمريكى فى إسرائيل ديفيد فريدمان، والمبعوث الأمريكى السابق للشرق الأوسط جيسون جرنبيلات، وقال: «فى اعتقادى التام أن ترامب لا يعرف شيئا عن صفقة القرن، إنما من له علاقة هم الثلاثى: فريدمان والولد كوشنر، وجرينبلات، وهم الذين كانوا ينقلون له أفكار نتنياهو».
طبعا أبو مازن كان فى جعبته الكثير ليقوله بعد أن فاض الكيل بالفلسطينيين من جراء الانحياز الأمريكى الفج للكيان الصهيونى، غير أن الرجل يدفع ثمن الفرقة والانقسام الحاد فى صفوف الفلسطينيين أنفسهم، وهو يتحمل جزءا من مسئولية هذا الانقسام الذى فتح بابا واسعا أمام من يريدون التنصل من القضية الفلسطينية لنفض أيديهم منها.
اليوم ليس أمام الفلسطينيين سوى العمل على رص صفوفهم مجددا، والتمسك بثوابتهم الوطنية، وعلى الآخرين الذين لا يقدرون على تقديم يد العون الحقيقية ألا يدفعوهم إلى «سلام الاستسلام»، وأن يتركوا القضية فى عهدة أجيال قادمة ربما تكون أقدر على استعادة حقوق سليبة من يد كيان غاصب، وهذا أضعف الإيمان.