كتب رئيس الوزراء الإسرائيلى يوم 20 يناير الماضى على منصة إكس «لن أتنازل عن السيطرة الأمنية الإسرائيلية الكاملة على كل الأراضى الواقعة غرب الأردن ــ وهذا يتعارض مع الدولة الفلسطينية». وهو تأكيد عما ذكره يوم 18 يناير فى مؤتمر صحفى قائلا «إن أى كيان فلسطينى ذى سيادة يمثل خطرا أمنيا غير مقبول على إسرائيل؛ لأن هذا الصراع لا يدور حول عدم وجود دولة، أى دولة فلسطينية، بل حول وجود دولة، وهى دولة يهودية».
تفصح هذه الرسائل عن سياسة اليمين الحاكم فى إسرائيل الذى يريد تهجير الفلسطينيين والفلسطينيات من أرضهم، والاستيلاء على كامل أرض فلسطين من نهر الأردن وحتى البحر المتوسط لتصبح أرضا خالصة لدولة إسرائيل. المدهش فى هذا الطرح أنه يطابق رؤية المقاومة الفلسطينية التى تريد إنشاء دولة فلسطين على كامل أرض فلسطين، وتذخر أدبياتهم بمقولة «من النهر إلى البحر» التى يرددها قادة حماس، والجهاد، والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وغيرهم من فصائل المقاومة. ونفهم من هذا التطابق فى موقف الطرفين أننا أمام مشهد يديره طرفان يؤمنان بالمعادلة الصفرية.
ولو وضعنا الموقف السياسى جانبا، وتصورنا أننا أمام مشكلة أرض يتنازع عليها طرفان، فإن الحلول قد تنحصر فى حلين، أولهما استيلاء أحد الطرفين عنوة على الأرض مع إقصاء أو إخضاع الطرف الآخر، وثانيهما الوصول لاتفاق من أجل اقتسام الأرض بطريقة ما بالتراضى بين الطرفين أو عن طريق الضغوط أو حتى الإجبار. وعلى مدار 75 سنة، هى عمر دولة إسرائيل، لم تقدم الأخيرة حلا دبلوماسيا أو سياسيا أو مبادرة سلام لاقتسام الأرض، ولم تحدد حدودها بالدستور وإنما بقوة الدبابات، فآخر حدودها هى ما تصل إليه قوتها العسكرية وتستطيع حمايته. أما على الجانب العربى، فلقد انحاز أولا إلى الحل الأول لمدة ربع قرن منذ نشأة إسرائيل عام 1948 وحتى حرب عام 1973، ثم تحول إلى الحل الثانى لقرابة نصف قرن بدءا من اتفاقية كامب ديفيد عام 1978 وحتى الآن، وذلك أخذا بالاعتبار وجود استثناءات فى الموقف العربى سواء وقت الحرب أو وقت السلام. معنى ذلك أن الموقف العربى تحول من المواجهة إلى السلام، ولكن إسرائيل لم تتحول، بل حافظت على تصورها فى السيطرة على المنطقة من النهر إلى البحر، وعندما تسارعت خطوات ما كان يطلق عليه فى الماضى «عملية السلام» وأقدم رئيس وزراء إسرائيلى للتنازل عن جزء من الأرض للطرف الفلسطينى، تم اغتياله فى وسط تل أبيب عام 1995، على يد متطرف صهيونى، من نفس المعسكر الذى يحكم إسرائيل الآن.
• • •
لو انحصرت المسألة فى اقتسام الأرض لما امتد الصراع طيلة عمر دولة إسرائيل، ولأمكن التوصل إلى تفاهم فى وقت ما. ولكن الأرض تعتبر جزءا من المشكلة الأوسع التى تمس العقيدة. ولذلك التغلب عليها سياسيا مسألة مستعصية عبر الزمن. وحتى لو تحولت الدول العربية إلى استراتيجية السلام للتوصل إلى تفاهم لحل القضية، فإن السياسات الإسرائيلية ماضية بلا هوادة فى الحل الأول بغض النظر عن انتقال الدول العربية للحل الثانى. وأفصح رئيس الوزراء الإسرائيلى فى خطاب إلى شعبه يوم 20 أكتوبر 2023 عن هذا المكنون عندما استدعى فقرات من الكتاب المقدس، من سفر أشعياء وأسقط معانيها على الشعب الفلسطينى، لاسيما أهل غزة الذى شبههم بالعماليق، فى وصف المشهد الحالى طبقا لرؤية اليمين الإسرائيلى، «نحن أبناء النور فيما هم أبناء الظلام، وسوف ينتصر النور على الظلام وسوف نحقق نبوءة أشعياء، لن تسمعوا بعد الآن عن الخراب فى أرضكم، وسنكون سببا فى تكريم شعبكم وسنقاتل معا وسنحقق النصر». ثم انتقل إلى الحل واستدعى من سفر صموئيل الأول «اذهب وحارب عماليق، اقض عليهم قضاء تاما، هم وكل ما لهم، لا تشفق عليهم، اقتل جميع الرِجال والنساء والأطفال والرضع، واقتل ثيرانهم وغنمهم وجمالهم وحميرهم، وحاربهم حتى يَفنوا». وهو الأمر الذى نفذه جيش الاحتلال الإسرائيلى حرفيا فى غزة، وتسبب فى جرجرة إسرائيل إلى محكمة العدل الدولية بتهمة الإبادة الجماعية، وأصبح عليها لأول مرة الوقوف للدفاع عن سياساتها التى تعرت أمام العالم.
• • •
الرهان على حل الدولتين هو المسألة التى عمل اليمين المتطرف الإسرائيلى على تدميرها بكل السبل فى أى فترة تولى فيها نتنياهو الحكم. ولكنه فعل أو يفعل ذلك وهو يراهن على أن الطرف العربى سيستمر فى الحل الثانى أو طريق السلام مع إسرائيل مهما فعلت. واعتبر نتنياهو أن الاتفاق الإبليسى (الإبراهيمى سابقا) هو الدليل على نجاح سياسته، لاسيما بعد اصطفاف عدد لا بأس به من الدول العربية للتطبيع مع إسرائيل. وحتى يوم 6 أكتوبر الماضى كادت القضية الفلسطينية أن تتلاشى فى ظل جهود الوساطة الأمريكية لضم السعودية إلى اتفاقية السلام الإبليسى مع إسرائيل. ثم جاءت حرب 7 أكتوبر لتغير المعادلة وتؤكد فشل سياسات اليمين الإسرائيلى الذى يظن أنه سيستولى على الأرض، ويطرد الشعب الفلسطينى، ومع ذلك سيستمر العرب فى التطبيع.
لذلك جن جنون السلطة اليمينية فى إسرائيل، وعبر نتنياهو عن ذلك قائلا يوم 23 نوفمبر «ليس هناك أمل فى السلام بين إسرائيل والفلسطينيين وبين إسرائيل والدول العربية إذا لم نقض على هذه الحركة القاتلة التى تهدد مستقبلنا جميعا». وكلما طال أمد الحرب كلما خسرت إسرائيل، فلا هى أخضعت الشعب الفلسطينى، ولا حصدت السلام، ولا حصلت على أسراها، بل تستمر المقاومة فى المقاومة. وهذا هو فشل اليمين الإسرائيلى بعينه. ونتنياهو وحكومته المتطرفة على يقين أن هذه هى فرصتهم الأخيرة، ولو أفلتت منهم، فلا مستقبل لليمين فى إسرائيل، وسيتلاشى معها حل الاستيلاء على فلسطين من النهر إلى البحر.
يدور هذا المشهد أمام أعين العالم الذى يدرك الآن أن ما تروج له الميديا الغربية ليس كل الحقيقة، وأن ثمة انفصاما بين صورة إسرائيل التى ظن أنه يعرفها وبين ما يقوم به جيشها أمام أعين الناس. لكن المهم الآن الشعوب العربية التى تعرف إسرائيل جيدا، والتى لا ترضى عما تشاهده، وترى الحرب تتوسع تدريجيا على خطوط التماس مع القوات الأمريكية فى اليمن، والعراق، وسوريا، وكان آخر ما رأته هو استهداف القوات الأمريكية فى قاعدة التنف فى شمال شرق الأردن. وهو الأمر الذى يستعصى على استراتيجية أمريكا فى المنطقة التى تفعل المستحيل لكيلا تظهر فى موقف المعتدى بجوار إسرائيل، وتحاول فصل المواجهات وكأنها لا علاقة لها بما يحدث فى فلسطين، وفى نفس الوقت تحاول إعادة إحياء حل الدولتين. وبدلا من الضغط على إسرائيل لوقف الحرب لكى تهدأ المنطقة وتنتهى المواجهات مع أنصار الله فى اليمن، والمليشيات الشيعية فى العراق وسوريا، فإن الولايات المتحدة مستمرة فى تصديها العسكرى حتى تعطى إسرائيل الفرصة كاملة لتحقيق أهدافها، على حساب شعوب المنطقة.