أحيانا تأخذنا مجريات الأحداث المتسارعة فى غزة فيختلط الأمر بين معايير النصر السياسى والنصر العسكرى. وإلى حضراتكم هذه الإفادة المبسطة للتوضيح، عندما سئل الفريق سعد الدين الشاذلى، رئيس أركان حرب القوات المسلحة الأسبق، فى برنامج شاهد على العصر، عن مسألة تحرير سيناء بقوة السلاح، أفاد بأن مسألة تحرير الأرض تأتى فى المقام الثانى، بينما يأتى فى المقام الأول تدمير قوات العدو. هذا عن النصر العسكرى، وذلك لأن تدمير قوات العدو كفيلة بأن تخضع سيناء للسيطرة المصرية.
أما النصر السياسى فبدأ منذ اللحظة الأولى لعبور القوات المسلحة لقناة السويس. وبمجرد إتمام عملية العبور، كسرت أسطورة جيش الاحتلال الإسرائيلى الذى لا يقهر، وفرض المصريون إرادتهم، وأصبح بقاء القوت الإسرائيلية فى سيناء مسألة وقت ليس أكثر. وبالرغم من حدوث الثغرة التى عبر من خلالها جيش الاحتلال إلى الضفة الغربية للقناة فى خضم المعركة، لم ينتقص ذلك من النصر العسكرى، أو النتائج السياسية. ولم يسع إسرائيل إلا الانسحاب من سيناء بعد سلسلة مفاوضات مطولة استمرت لسنوات. إذن نجاح معركة يوم 6 أكتوبر غيرت مجرى الأحداث، وأنهت حالة لا سلم لا حرب، التى ظنت إسرائيل أنها حالة مستدامة، وأدت إلى الوصول إلى تسوية سياسية شاملة.
• • •
بالتطبيق على غزة وحرب 7 أكتوبر نجد مجموعة من الأهداف السياسية المهمة التى تحققت منذ إطلاق طوفان الأقصى، وهى أولا، إعادة القضية الفلسطينية من غيابات التجهيل لتحتل أولوية قصوى لدى الحكومات الإقليمية، والعديد من الدول الكبرى، مثل الولايات المتحدة، ودول الاتحاد الأوروبى، مما أحيا مجددا مسألة حل الدولتين والاعتراف بالدولة الفلسطينية. وثانيا، ضرب مسار تطبيع العلاقات الإسرائيلية السعودية، فبات من غير المرجح المضى قدما فى مسألة التطبيع فى الأمد القريب، ولا نتجاوز إذا قلنا إن العلاقات الخليجية الإسرائيلية التى بنيت بعد الاتفاق الإبراهيمى تعرضت لانتكاسة شديدة. وثالثا، فتح العالم عينيه، لاسيما شعوب ومسئولى الدول الغربية، على ممارسات إسرائيل الهمجية التى تضرب عرض الحائط بكل القيم الإنسانية والتى تقتل وتدمر بلا رادع، وكل هذا تتناقله سبل التواصل الاجتماعى بالرغم من التضييق من إدارة تلك المنصات. وبذلك تتحول الصورة النمطية لدولة الاحتلال من اليهود المضطهدين الباحثين عن الأمان فى وسط الدول العربية، إلى اليهود المتكبرين، الذين يرتكبون أبشع المجازر، حتى قال المخرج البريطانى اليهودى، جوناثان جلايزر، بعد تسلمه جائزة الأوسكار هذا العام عن أفضل فيلم أجنبى، الذى تدور أحداثه عن محرقة اليهود فى الحرب العالمية الثانية، أن الاحتلال الإسرائيلى اختطف الديانة اليهودية، ويستعملها لتأجيج الصراع بالمنطقة، وأعلن تبرؤه من ذلك. رابعا، انكشاف مسألة المعايير المزدوجة بطريقة جلية فى أروقة المؤسسات الدولية، مما أدى فى النهاية إلى مثول إسرائيل لأول مرة فى تاريخها أمام محكمة العدل الدولية بتهمة الإبادة الجماعية، كما فقدت الكثير من التأييد الدولى فى أروقة الأمم المتحدة، حتى صدر قرار بموافقة 14 عضوا بمجلس الأمن وامتناع الولايات المتحدة فقط، يطالبها بوقف الحرب فى غزة بطريقة دائمة. وهذا بالإضافة إلى شهادات الأمين العام للأمم المتحدة، وغيره من المسئولين الأمميين مثل فرانشيسكا ألبانيز، مقررة حقوق الإنسان الخاصة للأمم المتحدة بشأن الأراضى الفلسطينية المحتلة، والتى تفضح ممارسة سلطة وجيش الاحتلال التى ترقى لجرائم الحرب. خامسا، تفاقم الخلافات داخل المجتمع الإسرائيلى، حيث أدت مجريات الحرب إلى احتياج جيش الاحتلال لتجنيد أعداد أكبر وضمهم لصفوفه، ولجأ لتجنيد اليهود الحريديم (المتدينين)، لكن حكومة نتنياهو تدرك تبعات هذا القرار، ولذلك طلبت الحكومة من المحكمة العليا تأجيل التطبيق لمدة شهر حتى نهاية إبريل، مما أثار حفيظة المعارضة، الذين يرون أن المجتمع الإسرائيلى العلمانى يضحى بأبنائه بينما ينعم الحريديم بعيدا عن المواجهات. وهذه القضية إضافة لضغوط أهالى الأسرى، تهدد تماسك الجبهة الداخلية. وكل هذه النتائج تعزز من نجاح استراتيجية المقاومة وتؤكد فشل سياسة إسرائيل.
• • •
بالانتقال إلى الوضع الميدانى، اغتالت إسرائيل يوم 18 مارس الماضى بعض قادة الشرطة التابعة لحركة حماس فى شمال قطاع غزة وهم العميد فائق المبحوح، والمقدم رائد البنا، ثم المقدم محمود البيومى فى مخيم النصيرات، إضافة لاغتيال مدير لجنة الطوارئ فى غرب غزة أمجد هتهت. جريمة هؤلاء القادة أن مجرد وجودهم بعد خمسة أشهر من الحرب، ونجاحهم فى الإشراف على توصيل وتوزيع المساعدات فى شمال ووسط قطاع غزة، هو فى حد ذاته إعلان فشل للعملية العسكرية البرية. يحدث هذا بعد قرابة ستة أشهر من التدمير الممنهج، الذى راح ضحيته أكثر من 32 ألف شهيد وشهيدة، و72 ألف شخص مصاب، وتسعة آلاف مفقود، وهدم 70% من مبانى غزة. وبالرغم من كل هذا الكم من الدمار، فإن أنفاق المقاومة القتالية مازالت متماسكة وفاعلة. وكل ما استطاع جيش الاحتلال فعله هو تفكيك مراكز القيادة الميدانية للمقاومة، وبقى المقاومون بتشكيلاتهم الفعالة، وتصديهم مجددا للتوغل الإسرائيلى حول مستشفى الشفاء. وتذخر إصدارات المقاومة يوميا بفيديوهات تنقل استهداف الدبابات، وناقلات الجند، وقنص العساكر الإسرائيليين، فى مشهد يعيد من جديد ما سبق ورأيناه فى تلك المناطق مع بداية التوغل الإسرائيلى فى شمال القطاع نهاية أكتوبر الماضى.
بل إن صواريخ المقاومة ما زالت تضرب المستوطنات والبلدات الإسرائيلية من حين لآخر. والآن تصدر تقارير تكشف عن سوء تقدير أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية عن القدرات القتالية للمقاومة الفلسطينية، التى تجعلها تصمد فى مواجهة جيش الاحتلال لمدة تناهز الستة أشهر. هذا بالرغم من ادعاءات إسرائيل بأنها قتلت الآلاف من مقاتلى المقاومة كما صفت العشرات من قادة الصف الأول، أشهرهم مروان عيسى. ولكن النتيجة النهائية، لم تستطع آلة الحرب الإسرائيلية تدمير المقاومة الفلسطينية. ويعلق الأستاذ الجامعى يوفال نوح هرارى، أستاذ التاريخ فى الجامعة العبرية بالقدس، على هذه النتائج فى مقالة نشرتها صحيفة «يديعوت أحرنوت»، قائلا: «إذا نجحت إسرائيل فى نزع سلاح حماس على المستوى العسكرى، لكنها بقيت بدون أفق سياسى، فإن ذلك يعنى أن حماس قد هزمتنا».
والآن، تريد إسرائيل إحراز نصر سياسى على حساب المقاومة عبر مفاوضات تبادل الأسرى، لكيلا تكرر صورة التبادل السابقة التى جرت فى شهر نوفمبر الماضى، والتى أظهرت الوجه الحسن للمقاومة، والصورة المنصاعة لجيش الاحتلال. ولا أظن أن تحصل إسرائيل على شىء يذكر لا بالمفاوضات، ولا باجتياح رفح، إلا مزيد من الخسائر السياسية، فضلا عن تنبيه عدد أكبر من الناس، بأن حكومة إسرائيل تحارب حربا دينية بغرض قتل الهوية الفلسطينية، وتحاول إسقاط آيات التوراة على حربها ضد الشعب الفلسطينى، لكى تحشد قواها الداخلية فيما تعتبره حربا على «بقاء الدولة». وفى خضم ذلك، انتقد وزير الجيش الإسرائيلى الأسبق موشى يعالون حكومة نتنياهو اليمينية، قائلا: «السنوار يعرف خططنا.. واليمين يضحى بأسرانا من أجل عودة المسيح».