نعود مرة أخرى إلى الحديث عن تطبيق قانون التصالح فى مخالفات البناء، الذى يبدو أن البعض يسعى بجدية للالتفاف عليه، وتفريغه من مضمونه، تحت حجج وذرائع بدأت تتسلل إلى بعض الأقلام والبرامج فى وسائل الإعلام المختلفة، متخذين الشرائح الدنيا المتضررة من القانون «دروعا شعبية» لإفلات أصحاب المخالفات الكبرى من العقاب المستحق، ومد أجل التهرب من سداد حق الدولة لإصلاح بنيتها التحتية المهددة بالتآكل نتيجة لتلك المخالفات.
قلنا فى مقال سابق إن مجلس النواب ظل لأكثر من أربع سنوات يناقش قانون التصالح فى مخالفات البناء، ورغم الجدل والنقاش العام حول القانون، كان البعض يظن أن القضية مجرد إصدار لتشريع سيكون مآله أضابير الدوائر الحكومية من دون أن يرى النور عند التطبيق، وبالتالى شهدت تلك السنوات نفسها مئات الألوف من المخالفات التى كانت تتم قياسا على تراخى الدولة أو عجزها فى سنوات عجاف.
ومن واقع تجارب ميدانية، تمتد منذ سنوات الثمانينيات من القرن العشرين وحتى الآن، سنجد أن البعض سلك طرقا مختلفة للتحايل، متسلحا بثقافة متوارثة عن التسامح مع المخالفات، خاصة فى فترات انتخابات المجالس النيابية، حيث يخضع النواب لعمليات ابتزاز واسعة لغلق محاضر إدارية تم تحريرها لمخالفى قوانين البناء، وكنا نتابع الوعود التى يحصل عليها هذا النائب أو ذاك من الجهات الحكومية لتوصيل المرافق لنجوع وكفور غالبية مبانيها أقيمت على أراض زراعية.
أتذكر أن أحد ملاك العقارات التى أقيمت فى نطاق القاهرة الكبرى أوائل التسعينيات، عندما سألته، وقد خرج عن خط تنظيم الشارع بنحو متر تقريبا، وبطول العقار المقام على مساحة 500 متر، ألا تخشى القانون؟ كان الرد أن أحدا لا يراقب، ثانيا وفى أسوأ الأحوال سيتصالح مع الحى بدفع غرامة لن تتجاوز ربع قيمة متر الأرض الذى كان يقدر بنحو ألفى جنيه فى ذلك الوقت، فى حين سيتمكن هو من كسب عشرات الأمتار التى أضيفت لعقاره المكون من 7 أدوار.
هذا المالك على الأقل كان يملك رخصة بناء، أما غيره فقد استغلوا فترات حرجة تمر بها الدولة، خاصة عقب أحداث 30 يونيو، للبناء بلا ترخيص وتحت جنح الظلام، أو فى أيام العطلات الرسمية، لدرجة أن أحدهم أقام بناء من ثلاثة طوابق فى أسبوع على طريق رئيسى، وهناك مئات النماذج لعمليات بناء كانت تتم ليلا فوق أسطح العقارات بارتفاع عدة أدوار.
سيقول قائل ولماذا لم تتحرك الأجهزة المسئولة وتزيل تلك المخالفات فى مهدها؟ السؤال طبعا منطقى فى ظاهره، وينطبق على سنوات بعينها، لكنه يتجاهل الأيام العصيبة التى مرت بها الدولة عقب 30 يونيو 2013، حيث كان الأجهزة مشغولة بتأمين وحماية المنشآت الحيوية من عبث العابثين، ومن أرادوا تحويل البلاد إلى كومة من خراب بتفجيرات إرهابية هنا وهناك.
نعم هناك تقصير من بعض مسئولى الأحياء ما ضاعف الأضرار وزاد من حجم المخالفات، لكن تجاهل الظروف التى مرت بها الدولة على مدى 5 سنوات على الأقل عقب 30 يونيو، يشبه من يحاكم الثورة العرابية بمعايير سنة 2020، وهو يجلس أمام شاشة أحدث الأجهزة الإلكترونية فى غرفة مكيفة فى نهار قائظ.
الدولة وضعت تشريعا للحد من البناء العشوائى، وعمليات التعدى على الأراضى الزراعية، ولن يرتدع المخالفون إلا بالتطبيق الحازم والصارم للقانون، وعلى هواة اللعب على أوتار «الغضب الشعبى» أن يغضبوا للدولة التى ستفقد هيبتها إذا رضخت لابتزاز المخالفين، أو لمن يخلطون الأوراق للإفلات من مخالفات البناء.