فى الغرب وبالرغم من وضوح الدليل العلمى لمخاطر التغير المناخى وتدهور التنوع الطبيعى، وبالرغم من نشاط التيارات الشبابية الداعية للاستجابة بجدية لتلك المخاطر التى تهدد بعواقب لا قبل لنا جميعا بها فإن المواطنين العاديين، كما يكتب مارتن هاير الأستاذ بجامعة أوترشت الهولندية، لديهم صعوبة فى الاستسلام لفكرة التخلى عن الحريات التى يتيحها لهم الوقود الأحفورى وخاصة التنقل بالسيارة والسفر بالطائرة، والتى يرونها استحقاقا طبيعيا حصلوا عليه بعملهم وكدهم. كما تؤثر تلك التصورات فى اختيارات هؤلاء المواطنين فى الانتخابات كما ظهر أخيرا مثلا فى الانتخابات فى هولندا، والتى جرت منذ عدة أيام. ويرى مارتن هاير أن الأكاديميين والعلماء لم يستطيعوا توفير منظور للمستقبل أو خيالات يمكنها أن تخلق قناعات ورؤى مختلفة لدى هؤلاء المواطنين.
لكننا لا نعيش فى هولندا فكيف هو حالنا، وهل ننظر بجدية لما يحمله المستقبل لنا خاصة فى ظل تلك التحديات الكبرى التى تواجهنا؟، كتبت منذ فترة فى إطار رؤية لتطوير إحدى قرى الريف المصرى قد تصلح أيضا مع مراعاة الظروف المكانية لعدد آخر من القرى، أننا يمكن أن نرى تلك التحديات كفرص مهمة للتحول المتجدد والتى تعد ليس فقط بمواجهة جادة مبنية على أسس علمية وتحترم الأبعاد الاجتماعية للمكان ولكنها يمكن أن تنقل تلك القرية لكى تصبح مكانا للحياة الطيبة، حيث تضمن لسكانها أن يحققوا أحلامهم بتلك الحياة ويطمئنوا فيها على أولادهم من بعدهم. كتبت شارحا تلك الرؤية على لسان إحدى سكان ميت رهينة (شخصية جميلة) فى مقال سابق. كما كتبت عن المستقبل المحتمل لسكان قرية برج رشيد فى أقصى شمال الدلتا على لسان إحدى فتياتها أيضا. كما كتبت عن مستقبل سكان مدينة القصير وكيف يمكن لهم أن يعيدوا بناء علاقتهم بالبحر وكائناته بصورة تحفظ للبحر صحته واستمراره، وتضمن لهم أيضا حياة تمكنهم من المضى قدما والعيش بصورة أفضل.
●●●
لكننا فى مصر وفى الغرب، بل وفى العالم قريبه وبعيده، نواجه تحديا أكبر فى تلك الرؤى والتصورات وما يمكن تسميته خارطة الطريق لهذا المستقبل وهو سيطرة الوقود الأحفورى على جوانب متعددة من حياتنا بالصورة التى استخلص منها العلماء أن هذا الاستخدام للوقود هو التهديد الأكبر لأى تصور مستقبلى لحياة مستدامة، وأنه لا بديل لنا سوى أن نتخلص من استخداماته المتعددة وفى أقرب فرصة ممكنة. بالتالى، وضع العلماء لذلك معالم زمنية واضحة إذا أردنا الحفاظ على مستقبل يمكن للبشرية فيه أن تعيش بسلام وبصورة مقبولة مع البيئة الطبيعية لكوكب الأرض.
تجادل الشركات النفطية، وهى المسئولة الأولى عن استخراج النفط فى بلادنا وما حولنا والبلاد الأخرى أيضا، أن البدائل المتاحة لا تكفى لتلبية احتياجاتنا من الطاقة. وعليه يجب علينا الاستمرار باستخدام الوقود الأحفورى حتى يمكن إيجاد البدائل. لكن وكما أثبتت العديد من الدراسات فإن البدائل موجودة ومتاحة بالفعل حتى وإن تبقى إشكاليات يجب العمل على حلها مثل، استقرار الشبكات الكهربية المعتمدة على الطاقة المتجددة. كما تجادل تلك الشركات التى تدفع معها الدولة المنتجة لتبنى مبادرات لا تسهم بصورة حقيقية فى تخفيض الانبعاثات الناجمة عن استخدام الوقود الأحفورى لكن تستخدمها لتحسين صورتها أمام العالم والادعاء باهتمامها بحالة الطبيعة مثل، المبادرات الهادفة لزراعة ملايين الأشجار مقابل الانبعاثات المتولدة من الوقود الذى يحترق فى أجوائنا ويأخذنا بسرعة كبيرة إلى حالة أكثر صعوبة وتحديا كل يوم. وينتقد العلماء مثل تلك المبادرات لأن أنواع الأشجار التى يجب زراعتها يجب أن تتحدد فى ظل ظروف البيئة المحلية ودراستها مع باقى مكونات المنظومة البيئية لتكون فعالة، بالإضافة إلى أن الأشجار تحتاج لوقت طويل لكى تكون فعالة فى امتصاص ثانى أكسيد الكربون.
تحاول أيضا تلك الشركات والدول دعم توليد الطاقة من مصادر متجددة مثل الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، وبالرغم من أن هذا مطلوب إلا أننا بالفعل وصلنا فى العقدين الأخيرين للاعتماد المتسارع على الطاقات المتجددة والتى أصبحت تمثل نمطا من الصعب إيقافه، نظرا لملاءمته الاقتصادية وللفوائد المتعددة التى باتت واضحة من استخدامها. لكن وطبقا لتقرير منظمة الطاقة العالمية فبالرغم من أن توليد الطاقة المتجددة ينسجم مع الأهداف التى حددها العلماء للسيطرة على الانبعاثات إلا أن الجانب الآخر وهو تقليل استخدام الوقود الأحفورى لا يسير بصورة تقترب مما هو مستهدف، بل شهدت الفترة بعد انتهاء جائحة كورونا ازديادا فى استهلاكه مقارنة بالفترة قبل الجائحة.
طبقا لتقرير شارك فى إعداده عدد من مؤسسات البحث المستقلة، وبتعاون مع الأمم المتحدة، صدر منذ أسابيع قليلة عن فجوة الإنتاج، تحت عنوان رئيسى: التخلص من أم الزيادة؟، يتناول خطة أكبر منتجى النفط لزيادة الإنتاج بالرغم من الوعود المناخية أن تلك الزيادة ستكون أكثر بـ ١١٠٪ مما يتسق مع إبقاء زيادة درجات الحرارة عند درجة ونصف الدرجة أو أكثر بنحو ٦٩٪ من الإبقاء على درجة الحرارة عند درجتين.
●●●
تطالب العديد من المؤسسات العلمية بالبدء بتقليص إنتاج النفط فورا وبصورة كبيرة. وأن جميع الدول مطالبة بالتخلص السريع من إنتاج النفط إذا أردنا الحفاظ على فرصة عدم زيادة درجة الحرارة عن درجة ونصف الدرجة أو حتى الإبقاء عليها دون الدرجتين. وقد تبنت اللجنة الدولية الحكومية للتغير المناخى تلك التوصية وأوضحت بجلاء أن النافذة المفتوحة لنا للنجاة من العواقب الكارثية للتغير المناخى آخذة فى الإغلاق بسرعة كبيرة.
فى الدول المنتجة للنفط والدول الغربية المتقدمة، حيث الثورة الصناعية وعقود من الإنتاج والحياة التى تتسم بالاستهلاك الكبير، لا شك أنه من الصعب بالفعل تخلى الناس عن نمط حياتهم والتحول لنمط آخر خاصة أن لديهم من الموارد التى تهيئ لهم أن بإمكانهم الاستمرار فى الحياة بنمط مشابه لما اعتادوا عليه. وتصور بعضهم أيضا أن بإمكانهم أن يحموا أنفسهم سواء من خلال استخدام تقنيات متقدمة أو حتى من خلال بناء ما يسمى بالملاجئ المناخية.
أما نحن فى دول الجنوب النامية والتى بعضها مثلنا ينتج النفط والغاز، والبعض الآخر هى بضاعته الأساسية ودخله الرئيس. فهل تعنى لنا التخلى عن الوقود الأحفورى شيئا أم أننا يجب أن نستمر فى إنتاجه واستهلاكه حتى نحظى ببعض التنمية التى تنقصنا ونلحق بتلك الدول التى تخطتنا فى مجالات عديدة؟. ولعل أسئلة رئيسية يجب أن نسألها لأنفسنا لتقرير أى مستقبل يجب أن نسعى إليه فهل هو المستقبل المعتمد بصورة كبيرة على الوقود الأحفورى، والذى إن غاب عنا لنقص فى الإمداد أو لقلة فى الأموال فتوقفت بعض أنشطتنا الحياتية، كما يحدث الآن مع انقطاع الكهرباء اليومى؟ هل يمثل إذا الاستغناء بصورة تدريجية عن الوقود الأحفورى ليس فقط مواجهة بل أيضا مساهمة مهمة منا لمواجهة التغير المناخى وبناء قدرة ذاتية تمكننا من العمل الجاد للتطور والازدهار فى مجالات متعددة؟
نواجه ولا شك فى دول الجنوب ضعف المعرفة الجادة بالقضية، وكذلك غياب أو قلة السياسيين الذين يؤمنون فعلا بهذه القضية ولديهم القدرة على صياغة السياسات المحلية وترويجها بين الناس. كما أن غياب مبادئ مثل المواطنة والتى لا تعنى المساواة فى الحقوق فقط ولكن أيضا المسئولية عن موارد هذا الوطن الطبيعية تمثل تحديا كبيرا. وفى هذا السياق يصبح التعليم وتحسينه وتطويره وسيلة رئيسية للتعامل مع التغير المناخى وأيضا لتحسين حياة المواطن، وسينتج عن ذلك إدراك أهمية ومحورية البحث العلمى ومعرفة ودراسة مواردنا المحلية بصورة أعمق، وهو ما سينتج المعارف المحلية الضرورية لبناء المرونة المطلوبة لمجتمعاتنا، والتى من خلالها تستطيع التصدى للظواهر المتوقعة والتكيف معها وإعداد ما يلزم للتحول الاقتصادى المطلوب.
ليست المواجهة الجادة للتغير المناخى، خاصة من خلال التخلى عن الوقود الأحفورى، فى صالحنا فقط لكنها أيضا فى صالح الدول المنتجة للنفط فى المنطقة، والتى يمكنها استخدام عائداته المتراكمة فى بناء شراكات حقيقية مع الدول الأخرى تسهم فى بناء قدرات هذه الدول، فنستفيد جميعا من حصيلة تلك الدراسات والمشروعات الجادة التى ستبنى عليها.
الفرصة كبيرة لتخيل مستقبل أفضل لنا وللدول المنتجة للنفط من حولنا بل وللعالم أجمع إذا صدقنا أن تخلينا عن «الحريات المزعومة المرتبطة بالوقود الأحفورى» يمكن أن تمهد الطريق نحو مستقبل أفضل لنا ولجيراننا ولدول الجنوب خاصة فى أفريقيا بل وفى العالم أجمع.