لا أدعى فى هذا المقال قدرات تحليل جيوسياسية أو عسكرية، ولكنى أحاول تحليل الموقف من منظور اقتصادى بحت. فاستمرار التوترات وتطورها فى الشرق الأوسط له تداعيات اقتصادية على العالم كله، خصوصا الولايات المتحدة حتى وإن كانت تبعد آلاف الأميال عن المواجهة، وحتى وإن لم تكن طرفا رئيسيا فيها. فما هى السيناريوهات وما هى تداعياتها على الاقتصاد الأمريكى؟
بداية دعونا نتفق أن الخطة الاقتصادية للرئيس ترامب تعتمد فى المقام الأول على انخفاض سعر البترول. ويتوقع الكثير من المراقبين أن تكون قرارات «الأوبك» المتكررة بزيادة حجم الإنتاج خلال الشهور الماضية هو من باب المجاملة لترامب رغم انخفاض سعر البترول فى تلك الفترة. أما عن سبب أهمية انخفاض سعر البترول فى الوقت الحالى أكثر من أوقات سابقة فالسر هو حرب ترامب التجارية التى جعلت توقعات التضخم تزيد مؤخرًا. ولكن بينما ارتفعت تلك التوقعات، فقد أتت أسعار البترول المنخفضة لتضع سقفًا لمعدلات التضخم الفعلية. فالبترول كان وما زال من أهم العناصر المؤثرة فى التضخم، جنبا إلى جنب مع مؤشرات البطالة وتضخم رواتب الموظفين. ومع تصاعد وتيرة الأحداث أضيفت إلى سعر البترول علاوة مخاطر إغلاق مضيق هرمز والذى يمر منه حوالى خمس الإنتاج العالمى من البترول والغاز. كذلك مخاطر إغلاق عدد من آبار البترول والذى من شأنه التسبب فى المزيد من اختناق إمدادات البترول العالمية. وبالفعل زاد سعر البترول فى لحظة حوالى 25% عن سعره قبل الاعتداءات الإسرائيلية. هذه وحدها زيادة ملحوظة ومؤثرة فى سعر البترول، فما بالك إذا تحققت بالفعل أى من المخاطر المذكورة أعلاه فى إمدادات البترول العالمية؟
سيناريوهات الاقتصاد الأمريكى فى ظل استمرار الحرب فى الشرق الأوسط أفضلها سيئ. فإذا ظلت المواجهات ملتهبة فسوف يستمر سعر البترول على مستوى أكثر ارتفاعًا من المستوى الذى يريح صانع القرار الأمريكى الذى كانت لديه طموحات للتوصل لاتفاقات تصب فى صالحه فى مفاوضات الحرب التجارية، وكذلك فى تمرير الحزمة المالية الجديدة والتى أطلق عليها ترامب اسم The Big Beautiful Bill. واستمرار الحرب لفترة طويلة سيتسبب فى سوء أحوال المواطن الأمريكى بسبب زيادة أسعار الطاقة، وبالتالى زيادة معدلات التضخم، مما يستدعى مع تمرير الحزمة المالية الضخمة زيادة معدل الفائدة على السندات الأمريكية طويلة الأجل، مما يزيد من أعباء الحكومة والشركات والأفراد وكذلك هبوط جديد للدولار ودخول الولايات المتحدة فى مرحلة ركود تتحدد مدى حدتها وفترتها الزمنية بشكل مباشر طبقًا لثلاثة عوامل:
١- سرعة تراجع أمريكا عن القرارات التى اتخذها ترامب فى حربه التجارية.
٢- طول مدة الحرب فى الشرق الأوسط.
٣- مدى الضرر الذى يلحق بإمدادات البترول والغاز أثناء الحرب وبعدها.
قبل يوم الأحد الماضى كان تقديرى أن الولايات المتحدة لا تستطيع الدخول فى ضربات ضد إيران بسبب المخاطر الاقتصادية بالإضافة للمخاطر الجيوسياسية. وحتى بعد ضربة الأحد يبدو لى أن الولايات المتحدة قد قامت بضربة تهديدية أكثر منها ضربة فعلية على أمل الضغط على إيران للجلوس على مائدة المفاوضات وهى فى موقف أضعف أو أكثر خوفًا.
هى بالتأكيد تجربة فريدة فى إدارة الدول تلك التى يغيب عنها التخطيط الاستراتيجى. هى أقرب لطريقة إدارة شركات وادى السيليكون الأمريكى والتى تعمل بطريقة التحرك سريعًا وتكسير الثوابت Move Fast and Break Things. هى تجربة فى تقديرى غير مقنعة فى إدارة الدول وقد نتج عنها بالفعل بداية تدهور موقف الولايات المتحدة الفريد من نوعه كمركز الثقل العالمى الرئيسى ماليًا واقتصاديًا وفكريًا وهذا من شأنه أن يجعل الحياة فى الولايات المتحدة أكثر صعوبة لمواطنيها عن الماضى. لا أقول أن الدولار سينهار مثلاً أو أن الولايات المتحدة ستفقد مكانتها كدولة عظمى ولكنها بالتأكيد بداية تآكل فى مدى قوة مركز ريادة الولايات المتحدة والدولار حيث كانت تنعم الولايات المتحدة بميزة تمويل فجواتها المالية بأرخص أسعار الفائدة. لكن يبدو أن ذلك أصبح ماضيا سيحكى عنه الأمريكيون المعاصرون لأولادهم وأحفادهم أنهم عاشوه ولم يدركوا قيمته إلى أن قاموا بانتخاب دونالد ترامب رئيسا لهم.