سنة هى قالوا
356 يوما
52 أسبوعا
8760 ساعة
أما لو أنها كانت سنة كبيسة فالعدد سيختلف بعض الشىء
هى كانت كبيسة مجازا ربما وليس بعدد أيام شهر فبراير وإضافة يوم له
هى سنة الرابع من آب/أغسطس
سنة انفجار مرفأ بيروت مدينة المدن
سنة قالوا وأعدوا لها، أى للمناسبة، ما استطاعوا من عدة وحبس كثيرون وكثيرات أنفاسهم وأخريات وآخرون عادوا إلى أعماق جوارحهم ومشاعرهم وهناك من فضل ألا يفتح التلفزيون وألا يستمع لنشرات الأخبار وبعضهم تمنى أن يعود إلى بطن أمه.. كما اغتسلت بيروت وكثير من البلدات والمدن الأخرى فى لبنان ودول العالم بدمع زاد حرارة ودفئا هذا الشهر «اللهاب» كما يعرفه أهل لبنان أو يعرفونه «اب اللهاب»!!
***
هى لا تزال منذ عام فى غرفة العناية المركزة بذاك المستشفى ترقد فى غيبوبة.. هى التى لم تتجاوز عقدها الثانى.. مر عيد ميلادها وكل الأعياد الدينية وعيد الحب وعيد الأب وعيد الأم وهداياها لا تزال مخبأة فى قلبها الصغير وأحبتها وأهلها يراقبون أنفاسها لعلها تختلف بعض الشىء فتعطيهم أملا بعد كثير من الخيبات والآلام والحزن.
***
وتلك التى كانت تداوى الجرحى والمرضى، هى التى سقطت ولم تكمل بعد عامها الواحد والعشرين لا تزال غرفتها مخبئة أسرارها الصغيرة وحزن يكفى لكل أهل البيت بل لكل لبنان.
***
وهى الأم التى فقدت ابنها فى السابعة عشرة من عمره.. هو الذى لم يفسح له الانفجار أن يكتشف ما خبأه الأصدقاء من فرح وهدايا بمناسبة تخرجه.
***
وهى.. ميلا التى جاءت من الفلبين منذ أكثر من ثلاثين عاما والتى رفضت أن تأخذ تقاعدها وتعود لأولادها وأحفادها فى بلدتها الصغيرة فى تلك المنطقة النائية من الفلبين، هى التى أحبت لبنان أكثر من وطنها، هى رحلت عنه فى تابوت قبل عام أو أقل ولا يزال بعض بعضها هنا.
***
قصص وحكايات لا تتشابه إلا فى وجع لم يعرفه أحد على وجه الأرض حتى لو حاولنا جميعا أن نقول أنه أكبر انفجار بعد هيروشيما ونجازاكى فهو فى الحقيقة قد يكون أكثر ألما منهما لأنه لم تكن هناك حرب عالمية ولا طائرات تسقط قنابلها فتحرق أجسادا بريئة ولا مدافع تقصف عشوائيا.. هنا فى بيروت قبل عام كان الناس يعيشون يوم أغسطس عاديا جدا رغم أنهم اعتادوا تحليق طائرات هنا ومناوشات هناك، إلا أنه كان يوما عاديا. بعضهم كان عائدا من العمل وآخرون كانوا عند شواطئ البحر يغتسلون من حر هذا الشهر وغيرهم جاءوا يتمايلون ليبدأوا سهرتهم فى تلك الأحياء الحية والقريبة من المرفأ ربما لسوء حظها أو حظهم.
***
بعد 4 آب/أغسطس ليس كما قبله وبعد عام من ذاك اليوم الذى تحولت فيه سماء المدينة عند ساعة الغروب إلى سواد كاحل وسقيت شوارعها وجدرانها بكثير من الأحمر القانى.. بدم أبنائها وبناتها وسكانها ومن أحبوها ومن عاشوا فيها ومن رددوا أنها مدينة الحب والفرح.
***
356 يوما من الوجع والدمع والألم المغروس فى أعماق الوجدان.. كم ساعة كانت أو كم دقيقة هى أو ثانية منذ ذاك المساء؟؟ بعضهم لم يتذكر وآخرون لم يعرفوا أية حياة منذ الساعة السادسة وثمانى دقائق من يوم الرابع من أغسطس فى سنة 2020.. هؤلاء أغلقوا أبواب نفوسهم وعلقوا اليافطة مغلق إلى الأبد.
***
عندما تداولوا هم فى الذكرى السنوية تلك العبارة «وإن سألوك عن بيروت قل لهم: نجا من مات، ومات من نجا» ذهلت من عمق العبارة بل وتصورت أن أحدهم تسلسل إلى ما بعد ابتسامتها المرسومة.. وفيما هى تفكر بذلك جاءتها رسالة صوتية من ذاك الصديق، رسالة مغمسة بالحزن الحقيقى غير المغلق بأى مصلحة أو مراعاة لأى مشاعر. قال «لماذا عشت وماتوا هم؟» كان إحساسه بالذنب ينهش أحشاءه منذ تلك اللحظة التى ترك سيارته على طريق المرفأ وهو عائد من عمله وجرى بأسرع ما يستطيع لمنزل تلك الصديقة الساكنة فى مقابل المرفأ وعند وصوله عرف أنها أصيبت وأن أحدهم حملها إلى مستشفى ما.. فجرى وجرى وجرى حتى وجدها فوق ذاك الفراش بتلك الغرفة مغتسلة بدمائها وجراحها قد نقشت أوشاما على كامل الجسد من الوجه حتى أخمص القدمين.. بعدها لم يتوقف عن الجرى للمساعدة حتى سمع أنها الذكرى السنوية ففرط بالبكاء للمرة الأولى منذ تلك اللحظة وعرف أنه لم يغتسل منها بعد وأن اللحظة التى حاول أن يدفنها لا تزال تعيش بأكثر من حياة بداخله.
***
عام مضى والوجع أكبر
عام مضى والجراح لا تزال تنزف دما دافئا
عام مضى والمدينة وسكانها لم يعرفوا إلا مزيدا من الحزن
عام هو إذن قالوا لها احتفلى بميلادك الجديد فقد كان من المفترض أن تكونى تحت الأرض وليس فوقها.. ولكن صعب عليها الفرح هى التى لا تزال كما كثيرون غيرها لا يعرفوا نوم ليل دافئ.