تساؤلات ساذجة حول الحملة على منظمات حقوق الإنسان - مصطفى كامل السيد - بوابة الشروق
الإثنين 16 ديسمبر 2024 4:01 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

تساؤلات ساذجة حول الحملة على منظمات حقوق الإنسان

نشر فى : الإثنين 9 يناير 2012 - 9:15 ص | آخر تحديث : الإثنين 9 يناير 2012 - 9:15 ص

مرة أخرى يحتدم النقاش حول التمويل الأجنبى للجمعيات الأهلية فى مصر، وكما كان الحال فى المرات السابقة، خرجت بعض الصحف المعروفة بتبنيها أسلوب الإثارة فى عرض الأنباء على القارئ، وبعضها يوصف بالقومى والبعض الآخر يوصف بالمستقل، خرجت كلها بقصص أقل ما يقال عنها إنها تحتقر عقل القارئ، لن أتحدث عن ادعاءات اكتشاف ملايين الجنيهات نقدا لدى مقار بعض هذه الجمعيات، وهو أمر لا نعرف من أين جاءت هذه الصحف به، علما بأن ما توافر من معلومات حتى الآن هو أن كل المؤسسات التى طالها ما يوصف بأنه تفتيش قضائى هى ثلاث مؤسسات أمريكية ومؤسسة ألمانية ومنظمتان مصريتان، هما المركز العربى لاستقلال القضاء والمحاماة ومرصد مراقبة الميزانية وحقوق الإنسان، ولم ينسب إلى أى من المنظمتين المصريتين أن أيا منهما كانت تتوافر له هذه المبالغ، بل بحسب تصريح مدير المركز العربى، فإنه لم يجر معه أى تحقيق حتى الآن، ولم تفدنا الصحف التى نشرت هذه الأنباء من أى مصدر استقت معلوماتها، ولا عن أى منظمة تتحدث، وكل ما تمكن الكاتب من الوصول إليه هو أن بعض هذه الادعاءات مصدرها محام رفع دعوى على بعض هذه المنظمات، ونحن لا نعرف ما هى مصداقية ما يدعيه، ولكن العناوين الرئيسية لإحدى الصحف الأسبوعية الموصوفة بالقومية قدمت هذه الادعاءات كما لو كانت حقائق مؤكدة. تلك هى سمة ثابتة فى تناول هذا الموضوع فى الصحافة المصرية، اتهامات مجهلة لا يقوم عليها دليل، ثم يجرى تناسى الموضوع برمته دون اعتذار عما جرى ترويجه على أنه حقائق، انتظارا لإعادة إنتاجه مرة أخرى عندما يحين السياق المناسب.

 

 

سياق الحملة الأخيرة

 

لابد هنا من التذكرة بأن هذا النقاش ليس هو الأول من نوعه حول هذا الموضوع، كان الأول هو الذى جرى على صفحات مجلة الأهرام الاقتصادى فى سنة 1983 عندما كان رئيس تحريرها هو الدكتور لطفى عبدالعظيم، وكان عنوان هذا النقاش هو «وصف مصر بالأمريكانى» وشارك فيه كبار المثقفين المصريين، ومنهم الأستاذ محمد حسنين هيكل والدكتور جلال أمين والدكتور محمود عبد الفضيل، ومنهم كذلك الدكتور سعد الدين إبراهيم، وكان موضوع هذه الحملة هو التمويل الأجنبى لمشروعات البحوث فى مجال العلوم الاجتماعية، وحتى تدرك عزيزى القارئ القيمة العملية لنقاشنا والذى يكاد يقترب أحيانا من روح الحرب الأهلية بين أطرافه، فقد توسع التمويل الأجنبى لمثل هذه المشروعات والمراكز البحثية التى تقوم به، بل إنى أزعم أنه لولا التمويل الأجنبى لتواضع كثيرا نشاط مراكز بحثية هامة، منها على سبيل المثال وليس الحصر مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، والمركز المصرى للدراسات الاقتصادية، ومعظم المراكز البحثية فى كلية الاقتصاد والعلوم السياسية التى أتشرف بالعمل فيها. ثم تجدد النقاش فى سنة 1999 وكان محوره التمويل الأجنبى لمنظمات حقوق الإنسان، وانصب الهجوم على المنظمة المصرية لحقوق الإنسان، التى أشرف أيضا بأن أكون عضوا فى مجلس أمنائها، وانتهت تلك الحملة بحفظ التحقيق مع الأمين العام للمنظمة، ولم يثبت فى حقه أو حق المنظمة أن ما كانت تقوم به هو مخالف للقانون.

 

وحسب علمى فإن التمويل الأجنبى لمنظمات حقوق الإنسان قد تضاعف منذ ذلك الوقت بدليل الزيادة الكبيرة فى عدد تلك المنظمات وفى أنشطتها.

 

وإذا كان ما ذكرته صحيحا من أن النقاش حول هذه القضية ينتهى دائما بزيادة التمويل الأجنبى لنفس الأنشطة التى كانت موضوع التنديد والتحذير من خطر تمويلها على الأمن القومى فما هى الجدوى من إعادة طرح نفس القضية مرات ومرات؟. ربما يفيد فى هذا الصدد أن نعرف سياق الحملة الحالية. وفقا لصحيفة الدستور، بدأت الحملة ببلاغ من المجلس الأعلى للقوات المسلحة إلى النائب العام يطلب منه التحقق من مصادر الأموال التى حصلت عليها شخصيات ومنظمات وأحزاب سياسية من الخارج واستخدمتها فى أنشطة مخالفة للقانون وعلى نحو ضار بالمصلحة الوطنية. والواقع أنى لسذاجتى المفرطة كنت أتصور أن جهود النائب العام سوف تنصب على معرفة تلك «القوة الثالثة» التى جرى الحديث عنها وقيل إنها مسئولة عن بعث الاضطراب فى مصر، مثل الهجوم على مسرح البالون والسفارة الإسرائيلية واستخدام العنف ضد المعتصمين والمتظاهرين أمام ماسبيرو وفى شارع محمد محمود وأمام مجلس الوزراء، أو تلك الجهات الخارجية التى مولت أحزابا أنفقت بلا حساب على حملاتها الانتخابية، ولكنى لدهشتى الشديدة وجدت أن أول ما توجهت إليه جهود المحققين هو هاتان المنظمتان المصريتان اللتان تناضلان بشدة من خلال ــ لاحظ يا عزيزى القارئ ما تقومان به ــ إصدار التقارير حول استقلال القضاء والمحاماة أو شفافية الموازنة وربما تعقدان حلقات تدريبية أو تنظمان ندوات حول نفس الموضوع. ولا أريد أن أتقمص دور المدافع عن المنظمات الأجنبية، ولكنى أعرف مثلا أن المنظمة الألمانية التى أغلق مقرها فى الزمالك، ووعد المحققون بعد لقاء استمر ست ساعات مع مديرها بإعادة فتح مقرها خلال أيام، وهى مؤسسة كونراد أديناور ساهمت منذ عامين فى تمويل مؤتمر عقده مركز المعلومات ودعم صنع القرار حول مراكز الفكر فى الدول النامية، كما أنها دعمت أنشطة العديد من مراكز البحوث فى كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، ونتاج هذه الأنشطة يتوافر باللغة العربية فى كتب أصدرتها تلك المراكز. ومن ثم فهذه الأنشطة علنية ومعروفة، وحسابات هذه المراكز تخضع لرقابة الجهاز المركزى للمحاسبات، كما أن نفس هذه المراكز دقيقة فى التحقق من أن ما تنفقه من أموال يخصص فى الأنشطة التى تعاقدت عليها، ولا يستخدم لإثراء أشخاص معينين. هل هذه هى الأنشطة التى يعتبرها المجلس الأعلى للقوات المسلحة ضارة بالأمن القومى للبلاد؟.

 

ومن عجائب الأمور أنه بينما يغطى التمويل الأجنبى للجمعيات الأهلية فى مصر العديد من الأنشطة مثل حماية البيئة ونشر الوعى الصحى بل وألوانا من الفنون منها فرق للفنون الشعبية فضلا عن مكافحة الفقر والنهوض بأحوال العشوائيات، فإن اهتمام المحققين انصب فى المحل الأول على منظمات حقوق الإنسان. ولا بد أن أعترف يا عزيزى القارئ بأن هذا التركيز على منظمات حقوق الإنسان قد أرهق تفكيرى كثيرا، فما هو الضرر الذى يلحقه الدفاع عن حقوق الإنسان وكشف انتهاكها ومراقبة الانتخابات بالأمن القومى؟. ولعلك تدرك عمق حيرتى إذا قلت لك إنى أقوم بالتدريس والبحث فى قضايا حقوق الإنسان منذ أكثر من عقدين من الزمن، ومع ذلك فلم أهتد حتى الآن إلى جواب عن هذا السؤال، وخصوصا أنى أعتقد أن وجود منظمات لحقوق الإنسان فى أى دولة، وممارستها لمهامها فى ظروف عادية بدون ملاحقة من سلطات الحكم هو دليل على الرقى والتحضر.

 

وآخر المفارقات فى موضوع التمويل الأجنبى أنه يتم فى معظمه بعلم الدولة وتحت رقابتها. هيئة فورد مثلا وهى من كبار مقدمى الدعم لأنشطة حكومية وأهلية وقعت اتفاقا منذ ست عقود مع الحكومة المصرية، وقامت بتأسيس مكتبة معهد التخطيط القومى عند إنشائه، وتمر الموافقة على مساعداتها عبر وزارة الخارجية، والتى تنقلها بدورها إلى كل من المخابرات العامة وإدارة أمن الدولة فى السابق، ولا تأتى الموافقة أحيانا إلا بعد شهور، ويشترط قانون الجمعيات الأهلية موافقة وزارة التضامن الاجتماعى، وقد شكا كثيرون من القائمين على إدارة منظمات حقوق الإنسان تحديدا من تأخر موافقة وزارة التضامن فى السنوات الأخيرة على هذه المساعدات.

 

 

الدولة والمجتمع المدنى

 

ما العمل إذا فى مواجهة هذه الحملة. بداية مفهوم المجتمع المدنى يعنى أن تكون لأفراده ومنظماته كل الحرية فى ممارسة أنشطتهم على نحو خلاق، وأن المسئولية عن تصحيح أخطاء المجتمع المدنى تقع على المجتمع المدنى ذاته. والمفروض أن يمول المجتمع المدنى أنشطته بجهوده الذاتية، ولكن مشكلتنا فى مصر أننا ندعم فقط تلك الأنشطة التى تعود علينا بالخير كأفراد فى الدنيا والآخرة نحن نتبرع بسخاء مسلمين وأقباطا للجمعيات والأنشطة الدينية لأن هذا هو طريقنا للجنة، ويتبرع الأثرياء لمشروعات الحكومة كسبا للنفوذ، ولكننا لا نرى حتى الآن ما هو الخير الذى يعود علينا من دعم منظمات حقوق الإنسان، بل قد تكون فى ذلك مخاطرة غير محسوبة العواقب. هل يعنى ذلك أن المجتمع المدنى يخرج عن سلطات الدولة؟ بطبيعة الحال ليس هذا صحيحا، ولكن الحكومة تمارس سلطاتها تجاهه على النحو المعروف فى الدول الديمقراطية، حسبما يقضى العهد الدولى للحقوق المدنية والسياسية الذى وقعت وصدقت عليه الحكومة المصرية. ولعلك تتفق معى عزيزى القارئ فى أن الحملة التى تتعرض لها منظمات حقوق الإنسان فى مصر، وهى طليعة المجتمع المدنى بالفعل بشجاعتها وبدورها الباسل فى كشف انتهاكات حقوق الإنسان فى مصر، فى الماضى والحاضر، هذه الحملة بانتقائيتها وباحتقارها لعقول المصريين، لا تتفق مع التقاليد المرعية فى الدول الديمقراطية، والتى نجاهد للحاق بركبها.

مصطفى كامل السيد أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة
التعليقات