الخصخصة وترحيل أزمات الحاضر إلى المستقبل - مصطفى كامل السيد - بوابة الشروق
الإثنين 16 ديسمبر 2024 3:46 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الخصخصة وترحيل أزمات الحاضر إلى المستقبل

نشر فى : الأحد 12 فبراير 2023 - 9:35 م | آخر تحديث : الأحد 12 فبراير 2023 - 9:35 م
أعلنت حكومة الدكتور مصطفى مدبولى الأسبوع الماضى عن بدء تنفيذ التزاماتها بموجب الاتفاق مع صندوق النقد الدولى بخفض دور الدولة فى الاقتصاد عن طريق خصخصة الشركات المملوكة لها، وذلك بطرح اثنتين وثلاثين مؤسسة وشركة فى سوق الأوراق المالية أو بالبيع لمستثمر استراتيجى. ومع إدراك الكاتب لأهمية وفاء الحكومة بتعهداتها فى الاتفاق الذى وقعته مع الصندوق، حتى ولو كانت له تحفظات كبرى على دور وصفات الصندوق فى علاج مشاكل الدول التى تلجأ له ومدى كفاية المساعدة التى يقدمها الصندوق فى خروج الاقتصاد المصرى من أزمته الراهنة، إلا أنه من الضرورى ألا يكون أسلوب الحكومة فى تنفيذ هذه الالتزامات من خلال الخصخصة هو ترحيل لأزمات الاقتصاد المصرى إلى مستقبل ليس ببعيد لقاء حصول الحكومة على إيرادات جديدة تساعدها فى مواجهة أعباء خدمة مديونيتها الداخلية والخارجية التى كانت السبب الرئيسى فى لجوئها إلى الصندوق. والواقع أن العصر الذهبى لوصفة الخصخصة باعتبارها الحل السحرى لمشاكل اقتصادات الدول التى اتسع القطاع العام فيها واقترن ذلك بعجز ميزانياتها وتعثر نموها قد ولى وذهب. شاع ذلك فى ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضى مع وصول حكومات محافظة للسلطة فى بريطانيا والولايات المتحدة وألمانيا مع زعامات تتمسك بحلول نقدية ومالية لمشاكل الاقتصاد مثل مارجريت تاتشر ورونالد ريجان وهلموت كول، ثم مع سقوط الأحزاب الشيوعية فى أوروبا الشرقية والاتحاد السوفيتى سابقا، ونصائح الخبراء الغربيين لحكامها الجدد بأن الخصخصة هى الحل. ظهرت مساوئ الخصخصة بعد ذلك فى العديد من هذه الدول. أدت الخصخصة فى بعضها ومنها روسيا إلى انتقال ملكية الدولة إلى احتكارات فى قطاعات حيوية يديرها أنصار السلطة، وزيادة حادة فى معدلات البطالة والفقر لعدة سنوات فى بعض دول أوروبا الشرقية، كما مكن احتفاظ الدولة فى بريطانيا بالخدمة الصحية العامة إلى تمكنها من مواجهة أزمة وباء كوفيد ١٩، وأعادت هذه الأزمة تذكير الحكومات الغربية بأهمية استمرار دورها فى رسم السياسة الصناعية وعدم الاستسلام لمغريات السوق فى ظل العولمة بالاعتماد على الواردات من الأدوية أو أشباه الموصلات.
نحن دائما كما هو حالنا نصل إلى اتباع الموضة بعد أن أصبحت قديمة، سوف يقول لى القراء أنه كما هو حال المستهلك خالى الوفاض، فإننا سنقبل بالموضة القديمة مادامت توفر مخرجا لنا من أزمتنا الاقتصادية الحالية، ولذلك يصبح السؤال المهم هنا هو ما إذا كانت قرارات الخصخصة هذه هى الطريق لتوفير جانب من الأموال التى تحتاجها حكومتنا. لنلاحظ أيضا أن بيع المؤسسات المملوكة للدولة جزئيا أو كليا ليس هو الأسلوب الوحيد للخصخصة. خصخصة الإدارة هى أيضا واحدة من تلك الأساليب، فتبقى هذه المؤسسات مملوكة للدولة، ولكن الحكومة تعهد إلى شركات متخصصة بإدارتها مقابل عائد مجز، ولكن تظل ملكيتها بأيد مصرية، وتعود للملكية الكاملة للدولة بعد أن يتدرب المصريون على أساليب متقدمة، وبعد إعادة الهيكلة فى هذه المؤسسات، وهذا هو الوضع الذى جرى فى عديد من الفنادق الحكومية. الفندق الشهير فى ميدان التحرير والذى يطل على النيل أدارته شركة هيلتون العالمية منذ افتتاحه فى عهد جمال عبدالناصر، وانتقلت إدارته فى السنوات الأخيرة لشركة ريتز كارلتون، وهو نفس الأمر بالنسبة للعديد من فنادق القاهرة والأقصر وأسوان التى تحمل اسم الشركات الأجنبية التى تقوم بإدارتها، وبالمناسبة نفس هذه الفنادق مطروحة للبيع فى قائمة الحكومة. ولا يبدو أن أسلوب خصخصة الإدارة فى هذه الفنادق قد أخفق، فلماذا العدول عنه، ولماذا لا نأخذ به فى حالات أخرى غير الفنادق، وخصوصا فى الشركات العامة التى تقدم خدمات للمواطنين والمواطنات؟ ميزة هذا الأسلوب هو أن الحكومة سوف تستمر فى الحصول على عائد مجز من هذه المؤسسات فى ظل الإدارة الجديدة، وسوف يزداد هذا العائد بعد أن يتعلم المصريون من هذه الإدارة، ويخلفونها بعد انتهاء عقدها.

مخاطر الخصخصة
يبدو أن الحكومة بقرارها بطرح اثنتين وثلاثين مؤسسة وشركة تابعة لها فى سوق الأوراق المالية قد نحت جانبا خيار خصخصة الإدارة، واستقر عزمها على المضى فى بيع شركات القطاع العام تدريجيا ووفقا للضوابط التى حددتها وثيقة ملكية الدولة، ولذلك فعلينا أن نناقش مدى نجاح الحكومة فى الوصول إلى هدفها بالحصول على أموال تغطى عجزها المالى المزدوج عن طريق هذا البيع.
السؤال الأول الذى يتبادر إلى الذهن هو ما إذا كان طرح هذا العدد الكبير نسبيا من مؤسسات وشركات القطاع العام سوف يحقق المرجو منه فى ظل ضعف الإقبال على الاستثمار الأجنبى فى مصر خلال السنوات الماضية، والذى لم يصل إلى المستويات المعروفة فى السنوات الأخيرة لحكم مبارك، والتى وصل حجم تدفق الاستثمار الأجنبى المباشر فى إحدى سنواتها إلى ١٣ مليار دولار، وأن القطاعات التى استأثرت بالقدر الأكبر من الاستثمار الأجنبى المباشر كانت هى قطاعات النفط والغاز الطبيعى والعقارات، فضلا عن أن الاقتصاد العالمى يمر بمرحلة تباطؤ فى النمو قريب من الكساد. ألا تؤدى هذه الأوضاع إلى اضطرار الحكومة لخفض قيمة ما تعرضه للبيع أملا فى اجتذاب مشترين مترددين؟
والسؤال الثانى الأهم هو ما يترتب على هذا البيع إن تم وهو مصير العوائد التى كانت تحققها الشركات الناجحة بمعايير السوق، وهى على الأرجح التى سيقبل على شرائها جزئيا أو كليا المستثمرون المهتمون بهذا الطرح. ما يتحقق من عوائد فى المستقبل سيتم التصرف فيه وفقا لرغبات الملاك الجدد، إذا كانوا من المصريين، فمن المحتمل أن يعيدوا استثمار جزء منه على الأقل فى مصر. أما إذا كانوا عربا أو أجانب، وهو الأرجح للعزوف المعروف من جانب القطاع الخاص المصرى عن زيادة استثماراته المحلية فى السنوات الأخيرة وربما لأسباب مشروعة، فإنهم سوف يرحلون الجانب الأكبر من هذه العائدات للخارج، وهكذا لا تخسر مصر ما كانت تحصل عليه من عائد من هذه الشركات قبل بيعها فحسب، بل إنه من المحتمل أن يؤدى ذلك إلى مصدر جديد للعجز فى ميزان مدفوعاتها بسبب ضخامة تحويلات أرباح هؤلاء الشركاء الأجانب الذى سيصبحون ملاكا لشركات كبيرة ومهمة وناجحة فى الاقتصاد المصرى فى الوقت الحاضر. وهذا هو واحد من أسباب حالات المديونية الكبرى للعديد من دول أمريكا اللاتينية مثل البرازيل والمكسيك والأرجنتين والناجمة فى جانب كبير منها عن ضخامة التحويلات الخارجية لأرباح الشركات والبنوك الأجنبية العاملة فيها، والتى آلت لبعضها ملكية أصول محلية حصلت عليها عن طريق برامج الخصخصة التى امتدت إلى قطاعات أساسية فى اقتصاداتها. وفى مثل هذه الحالة إن صح هذا التوقع بالنسبة لمصر، فإن هذه التحويلات قد تضيف صعوبات جديدة على قدرة الاقتصاد المصرى على توليد مدخرات قابلة للاستثمار فى مشروعات التنمية، وهى قدرة محدودة تمثل عقبة كبرى أمام جهود رفع معدل التنمية فى مصر.

ما هى القطاعات التى يجب التردد فى خصخصتها؟

وإذا كان من المفهوم أن صندوق النقد الدولى بحكم أيديولوجيته الرأسمالية يرى فى نقل الملكية للقطاع الخاص، محليا أو أجنبيا، خيرا فى حد ذاته، فالتنمية فى رأى خبرائه عمادها الأساسى هو القطاع الخاص، والرأسماليون أعرف بقواعد الاقتصاد من الحكومات، ولذلك فكون الخصخصة هى الطريق للتنمية هى عقيدة الصندوق التى لا تقبل الجدل. ولكننا نفترض أن الحكومة المصرية تهتم بالتنمية أو ينبغى لها أن تهتم بالتنمية بمعناها الحقيقى الذى يقضى بأنها تتمثل فى رفع نسبة مساهمة قطاعات الصناعة والزراعة والخدمات الإنتاجية فى الاقتصاد الوطنى والنهوض بمستويات التعليم والصحة للمواطنين والمواطنات، ولذلك عليها وهى تختار الشركات التى تطرحها للخصخصة أن تحتفظ بتلك المؤسسات والشركات التى تؤمن توجيه مدخرات الشعب المصرى نحو الاستثمار فى مصر أو تلك التى توفر لمصر المواد الخام أو مدخلات أساسية فى صناعاتها. وينطبق ذلك خصوصا على البنوك وشركات التأمين، وعلى الشركات العاملة فى استخراج المواد الأولية أو إنتاج مدخلات ضرورية للصناعة الوطنية.
ولذلك فمما يدعو للدهشة أن المطروح للبيع سواء من خلال سوق الأوراق المالية أو لمستثمر استراتيجى ثلاثة بنوك وهى بنك القاهرة والمصرف المتحد والبنك العربى الإفريقى، فضلا عن شركة مصر لتأمينات الحياة، وقد كان بنك القاهرة تحديدا واحدا من البنوك الأربع الكبرى المملوكة للقطاع العام والتى كانت تسيطر على الجانب الأكبر من مدخرات الشعب المصرى مع كل من البنك الأهلى وبنك مصر وبنك الإسكندرية، وقد جرى بيع بنك الإسكندرية، ولذلك فسوف تنحسر قدرة البنوك المصرية على تجميع مدخرات المصريين وتوجيهها نحو الاستثمار الدافع للتنمية بانتقال بنك القاهرة بدوره مع البنكين الآخرين لملكية أجنبية غالبا. ولا ينصح خبراء الاقتصاد بأن تكون البنوك وشركات التأمين هى من أوائل المشروعات المملوكة للدولة التى تنتقل إلى القطاع الخاص أو الأجنبى فى المراحل الأولى للتنمية، والتى تمر بها مصر والتى لم تصل بعد إلى أن يكون اقتصادها واحدا من اقتصادات الدول الصناعية الجديدة مثل كوريا الجنوبية أو تايوان أو هونج كونج ناهينا عن الصين. وقد احتفظت كل هذه الدول بملكية الدولة للبنوك الكبرى فى مراحل التنمية الأولى، وفى حالة الصين تحديدا فإن سر معدلات نموها السريعة هو تمويل بنوك الدولة لاستثمارات الشركات الصينية سواء العامة أو الخاصة.
ومما يدعو للدهشة أيضا وجود شركات تقوم باستخراج المواد الخام اللازمة للصناعة مثل شركة النصر للتعدين وشركة سيناء للمنجنيز ضمن الشركات المطروحة للبيع فى قائمة الحكومة. لقد استيقظ العالم مع أزمة وباء كوفيد والحرب الروسية الأوكرانية على أهمية توافر المواد الأولية والغذائية وخطورة الاعتماد على السوق الخارجية لتأمينها. ألا يجب أن نخشى مع انتقال ملكية شركات مثل هذه إلى شركات دولية أن تفضل هذه الشركات تصدير ما تستخرجه إلى أسواق خارجية، وألا توفره للشركات المصرية إلا وفقا لشروطها؟ وكما أظهرت أزمة كوفيد تحديدا خطورة الاعتماد على السوق الدولية لتوفير المستلزمات الطبية، وعادت دول مثل فرنسا تقيم مشروعات لتوفير الدواء لمواطنيها ومواطناتها بدلا من التعويل على واردات كمامات الوجه وحتى أدوية علاج البرد، فإنه مما يثير التساؤل كذلك هو وجود شركة مصر للمستحضرات الطبية ضمن الشركات المطروحة بالبورصة أو لمستثمر استراتيجى، ويبدو أيضا أن الحكومة لم تتعظ من شكاوى الفلاحين من ارتفاع أسعار الأسمدة، ولذلك فقد وضعت شركة حلوان للأسمدة للبيع ضمن تلك القائمة.

التعلم من تجارب الماضى

لا تتوافر للرأى العام معلومات كافية حول مدى احتياط الحكومة لعدم تكرار الأخطاء التى شابت صفقات الخصخصة السابقة مثل التخلص من العمالة بعد انتقال الشركات إلى ملاك جدد، أو تغيير نشاط الشركة المبيعة بعد سنوات قلائل واستفادة الملاك الجدد من أرضها كعقار، أو حتى توقف نشاطها تماما بلا سبب معقول، مثلما جرى لفندق ميريديان الذى احتفظ مالكه به ولكنه أغلق مبناه الفخم والكبير على الضفة الشرقية لنيل القاهرة تماما لكى ينهض شاهدا على عدم تبصر من سمحوا ببيعه، أو ألا تشوب صفقة البيع ممارسات فاسدة مثلما كان الحال فى صفقة بيع عمر أفندى التى أوقفها ما كشفه المهندس يحى حسين عبدالهادى عنها.
أطرح هذه الملاحظات على الرأى العام المتيقظ والحريص على مصالح مصر فى هذا الوقت الدقيق، وأتمنى أن تأخذها الحكومة فى الاعتبار وهى تسير على هذا الطريق المحفوف بالمخاطر.
مصطفى كامل السيد أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة
التعليقات