تعيش ألمانيا هذه الأيام فترة متوترة، بعض أسبابها له أبعاد نفسية تتعلق بالثقة بالذات، وأخرى تحكمها مخاوف أمنية على علاقة بالجوانب السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، التى تمر بها الدولة الألمانية بفعل تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية، وكلفتها الاقتصادية البالغة على صعيد تدبير موارد الطاقة لبلد لم يعرف الأزمات الحياتية لسنوات طويلة، فإذا هو يواجه شتاء قارسا بخطة تقشف منزلى لتقليل استهلاك الوقود الذى ارتفعت أسعاره، والاعتماد على الوسائل التقليدية للتدفئة.
الألمان الذين اعتادوا تحقيق النجاحات فى ميادين عدة لا تقتصر على تفوقهم فى مجال الصناعات الثقيلة، وتقديمهم السيارات الأكثر قوة ومتانة وأداء، ها هو منتخبهم الوطنى لكرة القدم المعروف بـ«الماكينات» يودع كأس العالم من الدور التمهيدى بعد الإخفاق أمام «الساموراى» اليابانى، ما أحدث صدمة وسط مشجعى الفريق الذى كان يراهن البعض على تحقيقه مراكز متقدمة فى المونديال الذى ينتظره عشاق الساحرة المستديرة كل أربعة أعوام.
خيبة الأمل من الخروج المذل من كأس العالم، لم تكن وحدها التى أصابت الألمان بالهواجس من تراجع قدراتهم الرياضية، فبعد أيام معدودة من وداع «الماكينات» للعاصمة القطرية الدوحة، حيث يقام المونديال، كشفت السلطات الألمانية عن خلية «إرهابية» لليمين المتطرف خططت لـ«قلب نظام الحكم» بالقوة وهو تعبير غريب عن الأدبيات الأوروبية عموما والألمانية خصوصا، كبديل عن «الديمقراطية» وهى الكلمة الأكثر تداولا فى الغرب.
الشرطة الألمانية قالت إن الخلية الإرهابية كانت تخطط لتنفيذ هجوم مسلح على مبنى البوندستاج (البرلمان) والانقلاب على السلطة، قبل أن تعتقل 25 شخصا من أصل 54 مشتبها فيهم، فى عملية أطلق عليها اسم «الظل» ونفذها نحو 3 آلاف شرطى، كما جرت عمليتا اعتقال خارج ألمانيا، واحدة فى النمسا والأخرى فى إيطاليا، كما فتش عناصر الأمن 137 مكانا ضمن مداهمات فى 11 ولاية ألمانية.
حاول بعض المحللين التهوين مما جرى فى ألمانيا، غير أننا أمام خلية تضم أعضاء من حركة يمينية متطرفة تطلق على نفسها اسم «مواطنى الرايخ» ينتمى إليها أكثر من 20 ألف عضو، وهى جماعة لا تؤمن بالدولة الألمانية ولا بحدودها الحالية، وتسعى للعودة لما كان عليه «الرايخ» أو الإمبراطورية الألمانية قبل هزيمة النظام النازى بزعامة هتلر فى الحرب العالمية الثانية منتصف الأربعينيات من القرن العشرين.
وما يرفع درجة القلق من صعود اليمين المتطرف الذى يشكل نقطة سوداء فى النسيج السياسى والاجتماعى الألمانى، بما ينضوى عليه من عنف وعنصرية، فى ظل تواجد ملايين المهاجرين فى البلاد، أن الخلية التى جرى اعتقالها ضمت قاضية كانت نائبة سابقة عن حزب «البديل لألمانيا» اليمينى المتطرف، وهو الحزب الذى يمتلك عددا كبيرا من النواب فى البرلمان الألمانى.
الأكثر دافعا للخوف هو أن أفراد خلية «مواطنى الرايخ» المحتجزين بينهم عناصر سابقون وحاليون فى الجيش والقوات الخاصة الألمانية، وقد لجأوا إلى تخزين أسلحة بعضها تمت سرقته من مخازن الجيش والشرطة، وهو ما جعل الحكومة الألمانية تعلن، بعد أيام من الكشف عن الخلية المتطرفة، اعتزامها تشديد قوانين حمل الأسلحة، فأفراد تلك الخلية، حسب وزيرة الداخلية الألمانية نانسى فيزر، «ليسوا أشخاصا مخابيل لا أذى منهم».
ربما استغرب البعض استخدام وصف «الانقلاب» لما جرى الكشف عنه فى ألمانيا، غير أن الكلمة اختزال لأزمة حقيقية يعيشها الغرب الأوروبى مع يمين متطرف استطاع الوصول إلى الحكم فى عدة بلدان، تغذيه نزعة كراهية للأجانب، ونسيج اجتماعى يستعصى حتى الآن على الانصهار فى بوتقة التعدد الإثنى لملايين المهاجرين، ما يجعل أحلام «الرايخ» تلقى بظلها على مستقبل مجهول فى قارة عجوز تحتاج على ما يبدو لمن يجدد شبابها.