فى الثالث من أغسطس الجارى، هذا الصيف، يكون قد مر مائتا عام على فك رموز حجر رشيد بواسطة العالم الفرنسى شامبليون، والتى مثلت بداية الدراسة الجادة للحضارة المصرية القديمة معتمدة فى ذلك على النصوص الأصلية المتعددة سواء المنحوتة على الأحجار أو المكتوبة على البرديات. تم العثور على حجر رشيد قبل ذلك بنحو ثلاثة وعشرين عاما فى قلعة قايتباى برشيد والتى كانت بمثابة النقطة الأولى فى الدفاع عن وحماية مصر من جهة الشمال وحماية البضائع التى تستوردها مصر من خلال ميناء رشيد. وكلما زرت برج رشيد مررت بالقلعة وغالبا ما كانت هى النقطة التى ننطلق منها أنا وطالباتى وطلابى فى أنحاء برج رشيد لنستكشف ونتعلم.
تقع قلعة قايتباى ببرج رشيد على الشاطئ الغربى لفرع رشيد شمال مدينة رشيد بنحو ٦ كم مباشرة على الماء الذى كان أساسا نهر النيل حتى آخر فيضان فى عام 1963 ثم أصبح الآن ماء مالحا من البحر الأبيض المتوسط. أنشأها السلطان المملوكى قايتباى عام ٨٨٦هـ/١٤٨٢م فى آخر عصر المماليك فى مصر، وكان الغرض الرئيسى من بناء القلعة هو صد الغارات الصليبية التى كانت تهاجم سواحل الدولة المملوكية فى مصر والشام، وكذلك حماية الدولة المملوكية من أطماع الدولة العثمانية الناشئة فى تركيا.
• • •
بنيت القلعة من الحجر الجيرى والطوب الرشيدى والأعمدة التى تدعم البرج الرئيسى. والقلعة مكونة من سور خارجى مستطيل الشكل يدعمه أربعة أبراج ركنية على شكل ثلاثة أرباع الدائرة، وتحصر هذه الأبراج فيما بينها من الداخل عدة مستويات بها فتحات مخصصة لرمى السهام على المهاجمين، ويضم مدخل القلعة حجارة تحمل نقوشا فرعونية، ومن الواضح أنها نقلت من مبانٍ أو معابد مصرية قديمة من أماكن قريبة وقد أطلق الفرنسيون عليها اسما جديدا هو «حصن سان جوليان» بعد أن احتلتها فرقة عسكرية تابعة لحملة نابليون فى عام ١٧٩٨، أضافوا لها بعض الإضافات التى تمكنهم من استخدامها لإطلاق البنادق. وفى أغسطس ١٧٩٩م عثر أحد الضباط الفرنسيين أثناء ترميم القلعة على حجر يشكل جزءا من جدار قديم، وهو الحجر الذى عرف لاحقا باسم «حجر رشيد» والمحفوظ حاليا بالمتحف البريطانى بلندن.
قبل الترميم الرئيسى الذى تم فى عام 1985 كانت حالة القلعة سيئة للغاية فأغلب جدرانها وحوائطها متصدعة ومنهارة، يمكن رؤية حالة القلعة من خلال صور المصور الشهير ليفسون فى عام 1961، وأيضا من خلال بعض لقطات فيلم ليلى بنت الشاطئ بطولة محمد فوزى وليلى فوزى وكانت أبراجها الباقية بحاجة لتدعيم تسريع كما أن المبنى الداخلى تهدمت أجزاء كثيرة منه. ثم أجريت للقلعة عملية ترميم شامل عام 1985، ولكن العديد من المخاطر التى تواجهها بسبب ارتفاع المياه الجوفية وزيادة عمليات نحر البحر، وانخفاضها عن الأراضى المحيطة بها أدت للقيام بعملية ترميم أخرى بدأت من العام ٢٠٠٨ بتمويل من الاتحاد الأوروبى واستغرق هذا الترميم نحو عامين وتم افتتاحه فى العام ٢٠١٠.
وفى عام 2017 أصدر رئيس مجلس الوزراء قرارا بتشكيل اللجنة العليا لتطوير مدينة رشيد الأثرية برئاسة وزير الآثار مستهدفا إحياء وتطوير المدينة أثريا تمهيدا لتسجيلها فى قائمة التراث العالمى لليونسكو، وعقدت تلك اللجنة الوزارية العليا برئاسة وزير الآثار اجتماعين الأول كان فى أكتوبر ٢٠١٧، والثانى فى نوفمبر من نفس العام، وتم خلالهما عرض رؤية وزارة الآثار لتطوير رشيد إلى جانب عرض جميع وجهات النظر من الوزارات والجهات الأخرى، ومنها وزارة الأوقاف ومحافظة البحيرة وجهاز التنسيق الحضارى. وكان التصور المعروض هو إخلاء المناطق السكنية حول قلعة برج رشيد تمهيدا لهدمها وإنشاء مارينا لليخوت السياحية وهو للأسف ما يتم حاليا وإن كان بوتيرة بطيئة.
• • •
بعد تعطل مضخات نزح المياه فى القلعة وغرقها بالمياه فى نهاية عام 2021 كانت هناك دعوات عديدة لإنقاذ القلعة مما يبدو من عدم اهتمام كاف بها يليق بأهميتها وقيمتها التاريخية، بينما يطالب بعض الأثريين بحاجة القلعة إلى مشروع شامل لرفع الماء من على سطح الأرض، بالاستعانة ببيوت الخبرة المتخصصة عبر تصميم هندسى لتدعيم القلعة بأعمدة من الفولاذ، وإعادة بناء طوابق لجعلها أكثر متانة، ويرون أن اليونسكو يمكن أن تساهم فى ذلك نظرا لأهمية القلعة النابعة أساسا من أهمية الحجر الذى اكتشف بها وكان مفتاحا لفهم الحضارة المصرية القديمة. إلا أن تلك المطالبة ربما تصطدم بعقبة تقنية تتعلق بالتعامل مع الطوب الرشيدى المستخدم بالقلعة والذى ربما يصعب للغاية نقله من مكانه؛ لأنه سيكون فى الغالب عرضة للتفكك وبذلك تتعرض أصالة القلعة لمشكلة.
فى زياراتى المتعددة لرشيد هذا العام توقفت عند فارق المنسوب بين أرضية القلعة ومستوى الماء فى مجرى النيل الملاصق لها من الشرق. وبناء على حسابات وتقديرات زميلى المتخصص فى هندسة السواحل فإنه من المتوقع فى خلال سنوات ــ ليست ببعيدة ــ أن يكون مجموع هبوط أرضية القلعة مضافا إليه ارتفاع منسوب البحر ما يقارب نصف المتر وهو ما يضاف إلى ما يقارب فارق المنسوب الحالى بين أرضية القلعة والمياه المجاورة. وربما تكون تلك الزيادة المتوقعة خطيرة للغاية وتهدد بقاء القلعة التاريخية.
• • •
نعرف من التاريخ أن الإنجليز أخذوا الحجر من الفرنسيين بعد انتصارهم عليهم فى المعركة البحرية التى حدثت مع نهاية الحملة الفرنسية على مصر. ولا يمكن اعتبار ذلك إلا سرقة لكنز مصرى تاريخى مهما كان التبرير. فهل يمكن لنا الآن أن نطالب بعودة الحجر إلى مكانه وأن يتولى سارقوه تأمينه حتى لا يتعرض للعبث والنقل مرة أخرى؟. ومن المنطقى والعدل أيضا أن يساهموا فى إنقاذ مكانه المهدد بالغرق لأسباب منها ما بدأ مع الثورة الصناعية التى انطلقت فى بلادهم.
ولأن إنقاذ القلعة لا يمكن أن ينفصل عن استعادة الطبيعة ومساعدة السكان المجاورين لها، فإن تلك العملية التى لابد أيضا أن تشارك فيها الحكومة والسكان ستكون مركبة ولكنها ربما تكون نهاية عادلة لسرقة الحجر وبداية جيدة لاستعادة المنطقة حول القلعة ــ وهى منطقة مصب النهر ــ لبعض من عافيتها وتجاوزها للآلام التى سببها التدخل البشرى سواء فى بلاد الثورة الصناعية أو فى بلادنا.
شخصيا لا أرى أفضل من ذلك احتفالا بالمئوية الثانية لفك رموز الحضارة المصرية القديمة وهو العمل بجد نحو تدارك أخطاء الماضى وأيضا المضى قدما نحو مستقبل يسوده العدالة من خلال عملية لبدء التعافى تتشارك فيها إنجلترا وفرنسا ومصر.
أستاذ العمارة بجامعة القاهرة