السلطويات الليبرالية! - أحمد عبدربه - بوابة الشروق
الخميس 12 ديسمبر 2024 5:30 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

السلطويات الليبرالية!

نشر فى : السبت 15 أغسطس 2020 - 7:35 م | آخر تحديث : السبت 15 أغسطس 2020 - 7:35 م

لعل واحدة من أهم الموضوعات التى شغلت ــ ومازالت ــ المجتمع الأكاديمى هو سؤال العلاقة بين الديموقراطية والتنمية، أيهما يأتى أولا؟
هناك دائما إجابتان عن هذا السؤال المعقد؟

الإجابة الأولى، تقول بأن التنمية هى شرط أساسى للديموقراطية، فالمجتمعات التى أشبعت احتياجاتها الأساسية من مأكل ومشرب ومسكن، وحصلت على خدماتها الضرورية من صحة وتعليم، هى وحدها القادرة على خلق نظام ديموقراطى قادر على الاستمرار!
ترى هذه النظرية المرتبطة باتجاهات الحداثة، أن المجتمعات التى تعانى من الفقر أو من المشاكل الصحية أو التى لا تملك البنية التحتية، من غير المحتمل أن تصبح مجتمعات ديموقراطية، ولو حدث وتبنت الدول الفقيرة النظام الديمقراطى قبل تحقيق قدر معقول من التنمية الاقتصادية والاجتماعية، فإن ديموقراطيتها ستكون شكلية والاحتمال الأقرب أنها لن تستمر كثيرا!
من ضمن مؤيدى هذا الاتجاه عالم الاجتماع الأمريكى سيمور لبيست، والذى نشر مقالا عام 1959 بعنوان «بعض المتطلبات الاجتماعية للديموقراطية.. التنمية الاقتصادية والشرعية السياسية»، والذى نشر فى دورية العلوم السياسية الأمريكية، حيث يرى صراحة أن تحقيق قدر معقول من الثروة، هو شرط مسبق للديموقراطية، أى أن المجتمعات الغنية فقط هى وحدها القادرة على تبنى نظم ديموقراطية! يرى هذا الاتجاه أن الطبقات البرجوازية، والتحول من المجتمعات الريفية بقيمها الأبوية الهيراركية إلى المجتمعات الحضرية بقيمها المدنية وإنتاجها الصناعى وتنظيماتها الحديثة، بالإضافة إلى الشعوب المتعلمة هى شروط مسبقة للديموقراطية، يرى هذا الاتجاه الأكاديمى أن الديموقراطية بها قدر من الرفاهية لا تقدر عليه ولا يناسب المجتمعات الفقيرة والدول الأقل نموا.
يربط هذا الاتجاه، بين «النضج» وبين «القرارات الراشدة»، فالمجتمعات غير الناضجة (الأقل تعليما وثقافة والأضعف صحة)، لا تستطيع اتخاذ القرارات المتعلقة بانتقال السلطة من حزب إلى آخر أو من جماعة إلى أخرى!
ظل هذا الاتجاه هو المسيطر على الفهم الأكاديمى حتى سبعينيات القرن الماضى، وظل واقع النظم السياسية يدعم هذا الاتجاه، ولا يكاد يشذ عن هذه القاعدة سوى دولة الهند، التى تمكنت من تبنى نظام ديموقراطى رغم الفقر والأمية وضعف الثقافة العامة ومحدودية الخدمات الصحية! إلى أن جاءت الموجة الثالثة من التحول الديموقراطى والتى وقعت على دفعتين، الدفعة الأولى فى أمريكا اللاتينية، حيث تحولت دولها تباعا من النظم الديكتاتورية إلى الديموقراطية فى ثمانينيات القرن الماضى، ثم لحقت بها الدفعة الثانية من دول شرق أوروبا فى عقد التسعينيات ليتغير الفهم المسيطر على الأكاديميين المهتمين بقضايا الحكم والسياسة لموضوع التنمية والديموقراطية، فدول أمريكا اللاتينية وشرق أوروبا لم يتحقق فيها أى تنمية اقتصادية أو اجتماعية، بل إنها خرجت من رحم نظم مترنحة اقتصاديا واجتماعيا ورغم ذلك فقد تمكنت من التحول الديموقراطي!
***

الاتجاه الثانى والذى مثلته دول الموجة الثالثة للتحول الديموقراطى، لم تتحدَ فقط فكرة تحقيق التنمية كشرط للتحول الديموقراطية، ولكنها أثبتت أيضا خطأ الاعتقاد بأن بعض الثقافات أو الأديان لا تتناسب مع نظم الحكم الديموقراطية وهو اتجاه كان ــ ولا يزال ــ معتبرا بين عدد كبير من الأكاديميين!
بحلول عقد التسعينيات، لم يعد التمرد الأكاديمى قاصرا على نفى التنمية كشرط مسبق للتحول الديموقراطى، بل أصبح يؤكد أن الديموقراطية هى وحدها القادرة على تحقيق التنمية، فالنظم السلطوية لا تراعى عملية التوزيع العادل للموارد، ولكنها تسعى إلى تحقيق الأرقام الكبيرة المبهرة للتدليل على التنمية، دون مراعاة للكيفية التى يتم بها توزيع ثمارها! فالنظم السلطوية التى لا تراعى تمثيل مصالح الطبقات المختلفة وترفض عملية التنظيم السياسى من أجل احتكار عملية صنع القرار، تنتهى بتمتع النخب المهيمنة وحدها بثمار التنمية دون مراعاة بعد العدالة الاجتماعية فى التوزيع!
هنا تتفاقم المشكلة لو أن هذه النظم السلطوية أيضا تبنت النظام الرأسمالى، لأن النظام السلطوى فى هذه الحالة لن يتخلى فقط عن التزامه بقضية عدالة التوزيع، ولكنه سيتخلى أيضا عن التزاماته الاجتماعية تجاه المواطنين، فالبقاء للأقوى فقط!
مثل هذا الاتجاه علماء مثل ديفيد ستارك ولاسزلو بروزست، فبعد دراسة متعمقة لأداء دول شرق أوروبا بعد التحول الديموقراطى، خلصا أن الضمان الوحيد للتنمية هو أن تبقى السلطة التنفيذية تحت رقابة السلطتين التشريعية والقضائية بالإضافة إلى الرقابة الشعبية! باختصار وحسب هذا الرأى، الديموقراطية هى شرط لتحقيق التنمية! هذا الفهم الجديد انعكس على تبنى المنظمات الدولية والدول المانحة لاقتراب جديد للتنمية يقول بأن الديموقراطية هى أحد أهم مكونات التنمية ولا يمكن تحقيق الأخيرة بدون الأولى، وتم تطبيق ذلك فى برامج المساعدات الدولية وهو ما عُرف بالمشروطية السياسية، أى اتباع قواعد النظام الديموقراطى كشرط لتقديم هذه الجهات للمساعدات.
عند هذه النقطة، بدأ مصطلح «الحكم الرشيد» ــ يترجم أحيانا بالحوكمة أو الحكم الجيد ــ فى الظهور على الساحة الأكاديمية وساحة المنظمات الدولية والجهات المانحة، والمثير فى هذا المصطلح أنه بينما يتجنب ــ فيما يبدو متعمدا ــ استخدام لفظ الديموقراطية، إلا أنه فى النهاية يحتوى على كل عناصرها (الشفافية والمحاسبة، دور المجتمع المدنى، المشاركة فى صنع القرار)!
هناك عدة تفسيرات للاستخدام المكثف لمصطلح الحكم الرشيد بدلا من مصطلح الديموقراطية وخاصة فى التعامل الدولى مع دول العام الثالث، من هذه التفسيرات، أن المصطلح ربما يراعى الحساسيات الثقافية من الديموقراطية، فيلتف حول المصطلح فقط لا غير! هناك تفسير آخر يذهب إلى أن الديموقراطية هى «العملية» التى تصل إلى الهدف «الحكم الرشيد»! والحقيقة أن كاتب هذه السطور يفهم الفارق بأن الحكم الرشيد يركز على النتائج بغض النظر عن الوسائل، كما يركز على بعد عدالة التوزيع بالإضافة إلى البعد المؤسسى وليس الليبرالى للديموقراطية، فالمهم أن يكون ناتج السياسات الاجتماعية والصحية والاقتصادية شاملا مفيدا لكل المواطنين، بقدر من المشاركة من المجتمع المدنى ورجال الأعمال بغض النظر عن الالتزام بقواعد الديموقراطية الليبرالية (حقوق الأقليات لا تسقط بقرار الأغلبية)، وبغض النظر عن تداول السلطة!
***
وبعيدا عن هذا الجدل فهذا الاتجاه الثانى (الديموقراطية كشرط مسبق للتنمية) أصبح هو المسيطر على نظريات العلوم السياسية خلال العقود الثلاثة الماضية، صحيح أن البعض بالغ فى تصور انتصار ساحق ودائم ونهائى للديموقراطية الليبرالية ومن ثم نهاية التاريخ (فوكوياما)، لكن مازال الاتجاه المعتبر هو أن الحكم الديموقراطى مهم ليس فقط لتحقيق التنمية، ولكن أيضا لاستدامتها!
حاول البعض التوفيق بين الاتجاهين، مستخدمين عبارات توفيقية مثل «الديموقراطية غير الليبرالية» أو «السلطويات الليبرالية» أو «السلطويات الديموقراطية»! صاحب المصطلح الأخير هو عالم السياسة الجنوب أفريقى إدريان ليفتوش والذى يرى أن السلطويات الديموقراطية هى الدول التنموية القادرة على الحفاظ على قدر من الديموقراطية المؤسسية (الانتخابات الحرة، التعددية الحزبية)، ولكن فى ظل سيطرة تيار واحد أو حزب واحد على السلطة واهتمام أقل بحقوق الإنسان فى مقابل التزام بعدالة التوزيع!

الحقيقة أنه وعلى أرض الواقع وكما ترى ألينا روكا فى ورقتها البحثية التى حملت عنوان «تحليل العلاقة بين الديموقراطية والتنمية: تعريف المفاهيم الأساسية وتقييم العلاقة» والتى نشرت ضمن مجموعة أوراق قيمة لمؤتمر «ويلتون بارك» بالمملكة المتحدة فى موضوع الديموقراطية والتنمية والذى عقد فى 2007، فإن الأمثلة المؤيدة للاتجاه الأول محدودة وجاءت فى ظروف تاريخية خاصة (كوريا الجنوبية)، أو لدول متناهية الصغر (سنغافورة وهونج كونج) ولكن معظم السلطويات الأخرى فى أفريقيا وآسيا والشرق الأوسط لم تتمكن فيها النظم السلطوية من تحقيق التنمية الاقتصادية أو الاجتماعية، بل وعلى العكس كانت هذه السلطويات السبب فى مجموعة من الكوارث والأزمات مثل المجاعات والحروب الأهلية والتطهير العرقى... إلخ.

إذا عدنا إلى منطقتنا، هل يمكن التفكير فى أطروحة «السلطويات الليبرالية» أو «السلطويات الديموقراطية»؟، بعبارة أخرى، هل من الممكن أن تتبنى الأنظمة السياسية فى منطقتنا نظاما هجينا من السلطوية (لا تداول للسلطة على مستوى رأس الدولة)، مقابل تداول للسلطة على مستوى المقاعد البرلمانية وأجهزة الحكم المحلي؟ تحتاج الإجابة إلى قدر كبير من الخيال السياسى وربما بعض التنازل!

أستاذ مساعد زائر للعلاقات الدولية بجامعة دنفر

أحمد عبدربه أستاذ مشارك العلاقات الدولية، والمدير المشارك لمركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة دنفر