انتبه المجتمع لبعض جرائم النفس التى جرت فى الآونة الأخيرة والتى ضيعت شبابا فى مقتبل العمر. وزاد من حيرة الناس الوتيرة التى تكررت بها هذه الجرائم، والتى لم تقتصر على مصر وحدها ولكن تكررت فى دول عربية أخرى. ولو كانت بعض الجرائم جرت بسبب انتشار أنواع جديدة من المخدرات مثل الشابو لها آثار مدمرة، فإن البعض الآخر جرى بدوافع الغضب وأمراض نفسية وأخرى مجتمعية. أو هكذا يتضح من بعض الجرائم. فشاب يقتل فتاة لأنها رفضته، وآخر يكرر الجريمة ثم يقتل نفسه بنفس السلاح ويقول إنه يقتص من نفسه ليأخذ حق المجنى عليها. وبعد كل جريمة تمتلئ صفحات الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعى، لاسيما المرئية مثل اليوتيوب بمئات أو آلاف الفيديوهات والتعليقات والمنشورات التى تتناول الحدث وتحاول تحليله، وهنا ندخل فى مشكلة أخرى. فمعظم إن لم يكن كل هذه المشاركات خصوصا المرئية عبر اليوتيوب أو التيك توك أو فيديوهات الفيسبوك تأتى من مشاركين سمعوا عن الحدث للتو، وتفاعلوا معه لحظيا، بدون معرفة بتفاصيل ما جرى، وأخذوا مواقف متباينة تساهم فى تشويش أذهان الناس وملئها بمعلومات منقوصة، وتحليلات بعيدة عن التخصص وأقرب إلى الهوى. ثم تقع الجريمة التالية، وتحدث ترندا جديدا، ويتراكم ذلك فى شرائح المجتمع ويحدث تغيرات لا نعرف مداها.
• • •
إليكم زاوية من هذه التحليلات توضح صناعة الفوضى الفكرية، فبعض محللى اليوتيوب، أو اليوــ تيوــ برز، يميلون لمسائل التنجيم، ويربطون بين وقوع الحوادث وحركة الكواكب. ويحددون أوقاتا معينة لظاهرة فلكية معروفة علميا وهى ظاهرة «تراجع الكواكب» على أنها مؤشر لحدوث نوع معين من الجرائم أو الأحداث. فلو تراجع الكوكب الفلانى المرتبط بالاتصالات بين الناس، فإن هذا التوقيت سيشهد سوء تفاهم بين المتحدثين. ولو تراجع الكوكب العلانى المرتبط بالمشاعر فى التوقيت الفلانى فإن هذا التوقيت سيشهد تصادما فى العلاقات الإنسانية. وإذا تراجع أكثر من كوكب فى توقيت معين ودخلوا فى برج كذا فإن هذا معناه أيام ثقيلة ومعاناة للمجتمع أو الدولة. ولو تابعت التعليقات التى تكتب أسفل هذه النوعية من الفيديوهات لوجدت العجب. فالبعض يدخل فى سجال عن صحة التوقيتات، والبعض يسأل لكى يفهم، والبعض يسأل لعله يجد إجابة عن أسئلة حائرة تمس حياتهم الشخصية لعله يجد مخرجا لما هو فيه. ومن ثم فإن أى جريمة ظاهرة تكون فى حقيقتها تابعة لحركة أخرى لا يعلمها معظم الناس وهى حركة الكواكب فى الأفلاك. وبالتالى تصل فى النهاية إلى مفهوم مذهل، وهو أن حركة الكواكب هى المسئولة عن الأحداث. ولكى تعرف ماذا سيحدث عليك بمتابعة الفيديو القادم، لكى تستفيد منه فى حياتك الشخصية. ثم تزيد عدد المشاهدات للفيديوهات، ويزيد الإعلانات التى تتخللها، وتجلب لصاحب أو صاحبة الفيديو دخلا يوميا بالدولار كلما زادت المشاهدات. المهم فى هذ الصدد هو صناعة المتابعين. فكلما زاد الترند زاد الدخل.
زاوية أخرى أكثر تقليدية، تربط ما يجرى من عنف فى الشارع المصرى بنوعية الأفلام التى سادت فى السينما المصرية. والتى عادت ما يكون فيها البطل «بلطجيا» أو «مجرما»، تعتريه نوبات من الغضب والعصبية تجعله يخرج عن شعوره ويقترف الجرائم. لكن نفس الفيلم لا يظهر ما جرى فى إطار إدانة البلطجى، ولكن إطار التعاطف معه، مما يجعل الجمهور يخرج وهو مستريح بأن البطل استطاع الإفلات من قبضة العدالة. ولا غبار عليه، فلقد نجح فى القصاص لنفسه ضد من «يظن» أنه ظلمه. وبالتالى تكون الرسالة، إذا استطعت أن تأخذ حقك بيدك، بدون أن تقع فى قبضة العدالة، فأنت البطل. وتنتقد بعض هذه التحليلات النادرة نوعية الأفلام التى تحث الناس على العنف. وهو أمر حميد. لكن عدد متابعى هذا النوع من الفيديوهات ليس بالكثير. وفى المقابل، يأتى نوع آخر من الفيديوهات ذات الترند التى تعرف كيف تصطاد فى الماء العكر، لتحمل النظام مسئولية العنف فى الشارع المصرى. ويرجع ذلك إلى أن النظام مشغول ببناء الطرق والكبارى ولا وقت لديه للتصدى لمثل هذه الجرائم التى تهدد السلم المجتمعى. ولو كان يكترث لما يجرى فى المجتمع لكان أغلق مسببات العنف، ومنها منصات الأفلام التى تبث الرزيلة فى المجتمع وتحث على الشذوذ والإباحية، ومنها منصة النيتفليكس وديزنى بلاس ــ ولو فعلها النظام لانتقده نفس الناس بحجة الحجر على حريتهم. ثم إن النظام يريد أن يلهى الناس فى متابعة هذه الأحداث، فهى تصرف نظرهم عن حقيقة ما يجرى فى الاقتصاد المنهار، والجنيه الذى يتهاوى أمام الدولار. ومن ثم، تخرج من هذه الفيديوهات بأنك إذا أردت أن تحارب الجريمة فعليك بمحاربة النظام.
ولا حصر لعدد الزوايا، وإليك زاوية أخرى، أن منصة اليوتيوب وما شابهها تصنع إعلاما موازيا، بعيدا عن سلطة الدول، به موارد مالية من الإعلانات، تجعل منظومة المنصة تعمل طبقا لتكلفة اقتصادية مربحة، تحقق نتائج أو أرباحا جيدة لكل الأطراف بنسب متفاوتة. وقد يكون الطرف الأكثر ربحية هى المنصة نفسها، التى تتحول بالتدريج لتصبح «هى الإعلام» الذى يشكل وعى الناس. ولقد انتبهت بعض الدول لهذا الاختراق، وقامت بصناعة منصات بديلة لكى لا يصبح وعى الدولة صنيعة شركات من وادى السيليكون فى كاليفورنيا. أى الوادى الذى به أكبر تجمع لشركات التكنولوجيا فى الولايات المتحدة. وعلى الدولة التى تريد صناعة وعيا صحيا داخل مجتمعها المبادرة بعمل منصات محلية. ومن ثم تخرج من هذه النوعية من التحليلات، بأنك إذا أردت أن تحارب الجريمة فعليك بعمل منصات تنافس اليوتيوب. وهذه مجرد عينة مما تزخر به مواقع التواصل الاجتماعى والتى تظهر مدى الفوضى فى الفكر التى تعترى الوسائل التى يستقى منها شرائح واسعة من المجتمع أفكارهم. وتكون النتيجة وعيا مشوشا، يؤدى لمزيد من الفرقة، مع التشبث بالرأى تبعا لما يتابعه كل مشاهد. ثم تستمر الجرائم ويستمر العلاج الخطأ، هذا إن كان هناك علاج.
• • •
ختاما، لا تعانى مجتمعاتنا من نقص المعلومات ولكن تعانى من طوفان المعلومات. والتحدى هنا ليس فى معرفة ما يجرى، وإنما فى استيعاب وفهم معنى ما يجرى ووضعه فى سياقه الصحيح. والتأخير فى السيطرة على فوضى الإنترنت ستزيد التشتت داخل المجتمع، وستصل بنا إلى مزيد من الانقسام. فعملية تهذيب فوضى الإنترنت بحاجة إلى تفكير يسبق الحدث ولا يقتصر على رد الفعل. الشاهد أن الباحثين المتخصصين فى العلوم الاجتماعية والجنائية والتى تزخر المكتبات بأبحاثهم هم أقل الناس حضورا فى المشهد.