بعد أن شرحنا فى المقالتين السابقتين اثنى عشر ملمحا من ملامح السياسة الدولية منذ مطلع القرن العشرين، يكون موعدنا اليوم مع شرح الملامح الثلاثة الأخيرة مع التمهيد لوضع تصور للمنحنى الذى قد تأخذه تلك السياسة فى العقود القليلة القادمة.
الملمح الثالث عشر: السياسة الدولية بين العلمانية والدين. كان واحدا من أهم ملامح السياسة الدولية فى القرن العشرين هو تراجع دور الدين لصالح السياسة العلمانية كمرتكز للتفاعلات بين الدول! فلم تعد هناك إمبراطوريات مقدسة فى أوروبا ولا فى آسيا، كما أن الإمبراطورية العثمانية بدأت فى الانهيار تدريجيا بعد الإطاحة بعبدالحميد الثانى فى ١٩٠٨! سيطر السياسيون على عملية صنع القرار وتراجع دور الدين ورجاله سواء فى صنع السياسة الداخلية أو السياسة الخارجية، وازدادت ظاهرة علمنة السياسة الدولية مع ميلاد الأمم المتحدة وزيادة دورها كفاعل دولى فوق مستوى الدول!
خلال سنوات الحرب الباردة، ومع ظهور تكتلات اقتصادية وسياسية وعسكرية إقليمية ودولية كحلف شمال الأطلنطى، وحلف وارسو، والاتفاقية العامة للتعريفة الجمركية والتجارة (الجات)، والبنك الدولى وصندوق النقد الدولى وحركة عدم الانحياز... وغيرها، فقد تأكد هذا المبدأ العلمانى للسياسات الدولية وخصوصا بعد اعتماد معظم دول الكتلة الشرقية لمبدأ الدولة الملحدة (غير المعترفة بالدين فى المساحة العامة)، ومعظم دول العالم الغربى الرأسمالى لمبدأ العلمانية (فصل الدين عن الدولة)!
إلا أنه ومع قرب انهيار نظام الثنائية القطبية فى ثمانينيات القرن العشرين، فقد عاد دور الدين ورجاله ومؤسساته مرة أخرى فى العديد من دول العالم، فاستعادت الكنيسة تأثيرها على السياسة الداخلية ومن ثم الخارجية فى دول أمريكا اللاتينية مع تهاوى النظم العسكرية للأخيرة، كذلك فقد عادت الكنائس الشرقية للعمل فى ملء الفراغ الروحى الذى نتج عن سنوات عدم إعطاء المساحة للدين فى الشأن العام! استعاد بابا الفاتيكان الكثير من بريقه مع نهاية السبعينيات وخلال الثمانينيات والسنوات التى تلتها، وكذلك فقد أصبحت الجماعات الدينية الإسلامية أكثر حضورا فى الشئون الداخلية والإقليمية والدولية وخاصة مع ظهور تيارات الصحوة الإسلامية، ثم دور المجاهدين بالتعاون مع الولايات المتحدة فى تحرير أفغانستان من الغزو السوفيتى، بالإضافة إلى الانتفاضة الفلسطينية الأولى ضد الاحتلال الإسرائيلى!
ومع انهيار الاتحاد السوفيتى رسميا مطلع التسعينيات، أصبحت الجماعات الدينية وخصوصا العنيف منها عنوانا رئيسيا للسياسة الدولية، كما أن نظرية صامويل هانتجتون عن «صراع الحضارات» كمستقبل للعلاقات الدولية، وما تبعها من صخب إعلامى ودبلوماسى وأكاديمى أعادت تعريف الهوية بالدين وهو الأمر الذى اشتعل بعد أحداث الحادى عشر من سبتمبر والانتفاضة الفلسطينية الثانية!
• • •
الملمح الرابع عشر: الشعبوية والديموقراطية فى السياسة الدولية. يمكن القول إن القرن العشرين هو قرن الديموقراطية بامتياز! فعلى الرغم من أن الديموقراطيات قد ولدت قبل ذلك بعدة عقود، فإنه ومع حلول القرن العشرين، فقد شهد العالم صعودا كبيرا للديموقراطية، سواء من حيث درجة التمثيل، أو من حيث الحماية التى منحتها ديموقراطية هذا القرن للأقليات! فحصلت المرأة للمرة الأولى على حق التصويت فى العديد من دول العالم، كما أصبحت الانتخابات هى المتحكم الأول فى صعود القادة السياسيين لمناصبهم فى عدد كبير من الدول الأوروبية بالإضافة إلى بعض الدول الآسيوية وكذلك فى أمريكا الشمالية! ازداد عدد الديموقراطيات بعد الحرب العالمية الثانية، وأصبح نشر الديموقراطية الليبرالية هى واحدة من أهم أهداف الدول الغربية فى السياسة الدولية!
ومع حلول الثمانينيات، فقد بدأت الموجة الثالثة للديموقراطية فى إفراز مفاهيم جديدة نسبيا مثل مفهوم السيطرة المدنية على العسكريين، حدث ذلك فى إسبانيا والبرتغال وتشيلى والأرجنتين والبرازيل وكوريا الجنوبية ثم فى دول شرق أوروبا وبعض دول إفريقيا والعديد من الدول الآسيوية! سيادة الديموقراطية الليبرالية بمبادئها الخاصة بالحقوق والحريات وحماية الأقليات كان يعنى أن السياسات الخارجية لعدد كبير من دول العالم أصبح يلعب فيها الرأى العام دورا كبيرا، كون أن رأى الجماهير فى النهاية أصبح المحدد لمن يصل إلى السلطة! ومن ثم، فإن صناع قرارات السياسة الخارجية أصبحوا يعملون ألف حساب للرأى العام قبل اتخاذ أى قرار فى السياسة الدولية قد يؤثر على شعبيتهم ومن ثم عدم تجديد انتخابهم ثانية! حدث هذا فى وقت تصاعد فيه دور الإعلام الدولى فى صناعة الرأى العام الدولى والمحلى بخصوص العديد من القضايا الدولية، فمنابر إعلامية مثل السى إن إن والبى بى سى، والجزيرة وغيرها أصبحت تؤثر على عملية صنع قرارات السياسة الخارجية فى العديد من دول العالم!
بيد أنه ومع حلول القرن الحادى والعشرين، وانتشار قضايا مثل الإرهاب الدولى والهجرة غير الشرعية واللجوء السياسى، فى ظل انتشار ظواهر أخرى مثل الدول الضعيفة أو الفاشلة فإن موجة جديدة من الشعبوية قد بدأت فى الانتشار دوليا مؤثرة على العلاقات بين الدول، وخصوصا بين دول ما عرف باسم العالم الأول ودول العالم الثالث! كما أن نتاج وصول الشعبوية إلى بعض الدول الكبرى كان له تأثير كبير على بعض الالتزامات والترتيبات الدولية والإقليمية، ففى إنجلترا وبسبب هذه الموجة اليمينية الشعبوية، خرجت الأخيرة من الاتحاد الأوروبى، وفى الولايات المتحدة ومع وصول ترامب إلى السلطة أعلن الأخير عدم التزامه بالعديد من الاتفاقيات الدولية مثل اتفاقيات المناخ واتفاقيات التجارة الحرة، كما أظهر عداء كبيرا تجاه المهاجرين والمهاجرات، وهو أمر مرشح للتزايد حال وصوله إلى السلطة مرة أخرى مع انتخابات ٢٠٢٤!
هذا التصاعد اليمينى ــ الشعبوى قد يكون له العديد من العواقب الأخرى، ولعل أكبر المخاوف من التصاعد الشعبوى هو أن العديد من الدول ستنتهج منهج الأبواب المغلقة مع معاداة حرية التجارة وتقييد الانتقال بين الدول وعدم الالتزام بالاتفاقيات الدولية أو الثنائية وهو أمر قد ينتج سياسات عزلة للعديد من الدول الكبرى قد يعيدنا إلى مشهد دولى مشابه لذلك الذى ساد فى مرحلة ما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية!
• • •
أما الملمح الخامس عشر والأخير فهو الرأسمالية العالمية والمسئولية الاجتماعية للدول! فالقرن العشرون شهد تصاعدا للفكرين الشيوعى والاشتراكى من جهة، والفكر الرأسمالى من جهة أخرى! لكن انحياز مؤسسات الاقتصاد الدولية إلى الفكر الرأسمالى ثم وبعد انتصار الولايات المتحدة والحلف الغربى فى الحرب الباردة بعد سقوط الاتحاد السوفيتى فقد أصبحت السياسات الرأسمالية العالمية القائمة على السوق الحر وخصخصة الموارد والأصول، وإلزام الدول النامية بحرية التجارة وبخفض الدعم المقدم للمواطنين وللمواطنات، ومع صعود موجة الليبرالية الاقتصادية الجديدة التى تعتبر أن تدخل الحكومات فى إدارة الاقتصاد هو شر مطلق، فإن العديد من دول العالم تخلت عن مسئولياتها الاجتماعية تجاه مواطنيها ومواطناتها، فتدهورت سياسات المعاشات والتأمينات الاجتماعية فى الكثير من الدول النامية، كما تدهورت السياسات الصحية والتعليمية فى هذه الدول بل وطال هذا التدهور بعض الدول المتقدمة أيضا.
لكن وبعد موجة وباء كوفيد الأخيرة، فأصبح هناك صوت مرتفع حول ضرورة إعادة الدول النظر فى التزاماتها الاجتماعية والصحية والتعليمية تجاه مواطنيها ومواطناتها، وهو أمر لم يحسم بعد، ولكن قد يؤثر على شكل السياسات الدولية مستقبلا.
أستاذ مساعد للعلاقات الدولية ــ جامعة دنفر