قبل أكثر من 30 عاما وبالتحديد خلال الفترة من 14 إلى 17 مايو 1990، شهد أحد الفنادق الكبرى بالقاهرة، وبدعوة من مركز دراسات الوحدة العربية، والصندوق الاجتماعى للإنماء الاقتصادى الاجتماعى، ندوة حملت عنوان «القطاع العام والخاص فى الوطن العربى».
الندوة التى حضرها عشرات المفكرين والباحثين الاقتصاديين المصريين والعرب، تناولوا بالبحث والتحليل، والنقاش الجاد، اتفاقا واختلافا، مستقبل شركات القطاع العام، فى ظل حديث متصاعد، وقتها، عن عمليات «الخصخصة» التى ستزحف فى السنوات التالية إلى الصروح ذات الملكية العامة، وخاصة عندنا فى مصر.
يومها، وكنت واحدا من الصحفيين الذين يتابعون النقاشات الحامية التى دارت داخل القاعات، وفى طرقات الفندق الشهير، طالب الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل، الذى كان وسط الحضور بالبحث عن مصطلح آخر غير «الخصخصة» للدلالة على التحول من القطاع العام إلى القطاع الخاص.. وقال هيكل ضاحكا إنه يشعر بأن كلمة «خصخصة» تتشابه مع كلمة «بصبصة»!
أتذكر اليوم كلمات الأستاذ هيكل والعديد من القامات المصرية الكبرى أمثال الدكتور عزيز صدقى، أبوالصناعة المصرية، واسماعيل صبرى عبدالله، ومحمود الإمام، وإبراهيم سعدالدين الخبير الاقتصادى بمنتدى العالم الثالث، رحمة الله عليهم جميعا، وقد تناولوا بالشرح مخاطر التحول غير المدروس من الاعتماد على القطاع العام فى عملية التنمية إلى القطاع الخاص، من دون إنكار لأهمية إعطاء الفرصة للقطاع الخاص الجاد للمساهمة فى تلك العملية.
لم يكن مطروحا وقتها، ولا فى خاطر المشاركين فى تلك الندوة الحديث عن تخلى مصر عن صروحها الوطنية الكبرى مثل الصناعات الثقيلة، ولا عشرات الشركات العاملة فى الغزل والنسيج والأسمنت والمواد الكيماوية وغيرها، كما لم يكن أحد يتخيل أن «الخصخصة» التى سخر منها الأستاذ هيكل، تحولت إلى كلمة «تصفية» بالفم الملآن، وبلا أية مواربة للتعبير الصريح عن تخلى الحكومة عن قلعة الحديد والصلب فى حلوان التى خدمت الدولة المصرية منذ تأسيسها عام 1954.
اليوم وبعد قرار الجمعية العامة غير العادية لشركة الحديد والصلب فى 11 يناير الجارى، برئاسة المهندس محمد السعداوى رئيس مجلس إدارة الشركة القابضة للصناعات المعدنية تصفية الشركة، تصاعد الحديث عن الخسائر التى تتعرض لها الشركة التى لم ينظر إليها بعين العطف على مدى 20 عاما على الأقل، ولم تحظَ بفرصة حقيقية وجادة لإصلاح يجنبها الذبح بسكين التصفية.
ودعونا نتذكر أن وفدا من لجنة الصناعة بمجلس النواب، زار فى 20 يناير 2019 شركة الحديد والصلب، ويومها عرض مسئولو الشركة وعمالها على الوفد الزائر المشكلات المتراكمة التى جعلت منها شركة خاسرة ومدينة، لكن وعلى مدى عامين لم نسمع صدى لهذه الزيارة داخل أروقة البرلمان، ولم يطلع السادة «نواب الشعب» الرأى العام على أية خطط للإصلاح.
وقبل يومين خرجت علينا لجنة الصناعة فى البرلمان الجديد برئاسة النائب معتز محمود، ببيان قالت فيه إن «مسألة تصفية شركة الحديد والصلب لا يجب أن تخضع للأحكام المتسرعة بشأنها، وأنه لا يمكن حلها أو طرح سيناريو نهائى بشأنها بناء على العواطف».
وبدلا من أن تدعو الحكومة إلى عدم التسرع فى تنفيذ قرار التصفية أو مراجعته، وجدنا اللجنة تُضمن بيانها حزمة من الأرقام التى تبرر بها وزارة قطاع الأعمال العام قرار «التصفية» وكأن اللجنة لسان للحكومة.
شركة بحجم الحديد والصلب «دورا وقيمة» لا يجب أن نصحو من النوم فنجد عنابرها، وأفرانها، وأنفاس عمالها الـ 7500، وقد تبخروا فى الهواء، لتصبح الشركة أثرا بعد عين، بدلا من وضع خطة تطوير وإنقاذ، أعتقد أنها لن تكون من مستحيلات الدنيا السبع.