فى تشابك بديع لشخصيات مصنوعة بعناية، وحبكة لا أود القول إنها أقرب لأدب البوليسية والتشويق رغم رصانة لغتها، يجول الروائى الكبير والصديق العزيز، ناصر عراق فى «الأنتكخانة»، روايته الأحدث، والثانية صدورا عن دار الشروق، والثانية عشرة فى مسيرته الإبداعية، متخذا من عمليات سرقة الآثار المصرية على يد عدد من علماء الآثار الأوروبيين (الفرنسيين والألمان تحديدا) مسرحا للتذكير بعمليات النهب المنظم التى تمت لتراث أجدادنا القدماء، ولسان حاله يحذر من السرقات المتوالية والتى جرى الكشف عن بعضها أخيرا.
على خطين متوازيين يتلاعب الروائى بشخوصه، فهو تارة يعرى، بل ويفضح، لصوص الآثار الذين تولوا عمليات البحث والتنقيب فى مقابر الفراعين العظام، قبل نهب جلها على أيديهم رغم ارتدائهم أثواب العلماء، وتارة أخرى يكشف ما تخفى جدران البيوت من أسرار علاقات حميمية مشبوهة، وجرائم قتل لعدة خادمات، فى كواليس غير بعيدة عن عالم سرقة الآثار وخاصة تلك التى يقودها النجار رمضان المحمدى لصالح تاجر الغلال الفرنسى بنيامين جاكوب صديق أوجست مارييت مؤسس ومدير أول متحف يقام للآثار المصرية أو «الأنتكخانة» التى افتتحها الخديو إسماعيل عام 1863.
شخصيات معطوبة يعتريها العوار من كل جانب، وإن بدت فى الظاهر رزينة، تتحلى بوقار العلماء، وخلاصة التهذيب الذى وصلت إليه الحضارة الأوروبية فى القرن التاسع عشر الميلادى، هذا ما طغى على النماذج التى ساقها الكاتب فى «الأنتكخانة»، باستثناء شخوص إيجابية قليلة بينها أحمد أفندى كمال عالم المصريات، والأمين المساعد للأنتكخانة، والذى أفلت من السقوط فى هوة سرقة الآثار مدفوعا بغرامه المؤقت لمودموزيل جوزفين ديورى، الفرنسية الهاربة من باريس إثر تهديدات بالقتل من خطيبها السابق.
يلح عراق فى حوار دار بيننا عقب صدور «الأنتكخانة»، على أن الرواية وإن حملت بين طياتها أسماء معروفة فى عالم الآثار، إلا أن الكثير من الأحداث والشخصيات متخيلة كلية، ولا تنتمى لعالم الواقع بأى صلة. والحقيقة أن عراق العاشق للتاريخ، والذى جعل من عصر محمد على الكبير وأسرته مسرحا لأكثر من عمل، نسج على المنوال نفسه فى «الأنتكخانة» التى تدور أحداثها فى نهاية عصر إسماعيل، وتحديدا بين عامى 1878 و1879، بلغة فصحى رشيقة ومحببة، خالية من أى تعقيد متعمد.
جانب من الدراما التى رافقت صعود وهبوط الخديو إسماعيل عقب سقوطه فى فخ الديون الأوروبية، نتيجة البذخ جاء على لسان هانيريش بروجرش، عالم الآثار الألمانى، المقرب من الخديو نفسه، حين يقول «مارييت باشا أكد لى قبل أسبوع أن عرش إسماعيل على فوهة بركان، وأن الانجليز والفرنسيين يتربصون به بعد ان اقترض منهم الملايين لينفقها على أمور كثيرة غير مهمة ولا تدر أرباحا، ولا تعد قفزات اقتصادية تدفع البلد إلى الأمام».
وفى موضع آخر يتحدث هانيريش ومارييت تقودهما مصالحهما الشخصية حيث يقول الأخير عن الخديو إسماعيل: لا أظن أنهم سيتركونه ينعم بسحر العرش فترة طويلة. ما يهمنا هو الحفاظ على عملنا هنا فى التنقيب عن الآثار دون عوائق من أجل اكتشاف المزيد من أسرار هذه الحضارة المذهلة، ولا أتخيل لحظة أن أى حاكم لمصر بقادر على عرقلة عملنا».
طبعا هذا الحوار يخفى شغفا أوروبيا بسرقة قطع الآثار المصرية وتهريبها إلى الخارج سعيا لكشف أسرار الحضارة المصرية القديمة من جانب، ورغبة فى الثراء والعيش الرغيد عند التقاعد عن العمل وهو ما كان هنرى ومارييت ضالعين فيه، حيث ساهم الأخير فى إخراج آلاف القطع المكتشفة إلى باريس ومنها إلى متاحف العديد من البلدان الأوروبية حيث تعرض الآن بكل تبجح اللصوص.
ولأن التاريخ ليس هو الغاية فى حد ذاته، لم يشأ عراق التوسع فى الأحداث التى رافقت سقوط الخديو إسماعيل فى 26 يونيو 1879، وبروز شخصيات مثل جمال الدين الأفغانى والشيخ محمد عبده وأحمد عرابى الذى خلق له عراق شخصية قريبة منه هى الضابط خليل الهوارى ابن خالة أحمد أفندى كمال.
«الأنتكخانة» التى تزينت بغلاف أنيق كعادة كتب «دار الشروق»، يثبت ناصر عراق من خلالها مجددا قدرته على تطويع التاريخ لخدمة الحكى الممتع، جنبا إلى جنب فى استدعاء الماضى للإشارة إلى واقع مأزوم يبحث عن خلاص فى مستقبل مجهول.