بعض الناس المدفوعة بمشاعر متباينة تجاه العائلة المالكة البريطانية، استغلت مسألة وفاة الملكة إليزابيث الثانية لتعيد التأكيد على دور العرش الملكى البريطانى السلبى فى التاريخ العربى الحديث والمعاصر. فات الكثير ممن هاجم الملكة أنها لم تزر فلسطين التاريخية طيلة عهدها الذى امتد 70 عاما. ولقد أثار ذلك حفيظة الميديا الإسرائيلية التى عددت الزيارات التى قامت بها الملكة، ومنها 43 زيارة لدول زارتها لأول مرة، بينما زارت كندا 27 مرة، ولكن لم تزر إسرائيل ولو مرة واحدة. بيد أن باقى أعضاء العائلة المالكة فى مصاف الزائرين الدائمين لإسرائيل، ومنهم الملك تشارلز الثالث قبل توليه العرش. وسنرى مستقبلا سياسة الملك، وهل سيعتمد سياسة الملكة الراحلة، أم سيزور فلسطين التاريخية. على أى حال، انتشر الحديث فى الأيام التى تلت وفاة الملكة عن كتاب صدر عام 2006 للكاتب البريطانى ماريو ريدينج المتوفى عام 2017. واشتهر ريدينج بكتابة روايات عن أمور غامضة يقبل عليها الناس بشغف كبير، مثل الحديث عن نبوءات المستقبل، وعودة المسيح إلخ من هذه الأمور. ويعتبر كتاب «نوستراداموس: النبوءات الكاملة للمستقبل» من أشهر كتبه الذى لاقى رواج كبير. وفيه ترجم الكاتب نبوءة لنوستراداموس تشير لوفاة الملكة فى شهر سبتمبر 2022، وتولى ابنه تشارلز الثالث الحكم بعدها.
•••
والآن إلى الصدمة التالية فى الكتاب، ففى صفحة 97 من الطبعة الأولى عام 2006، توقع بأن فترة الملك لن تدوم طويلا، بل تقتصر على أسابيع قليلة، يتخلى بعدها الملك عن الحكم لصالح ابنه. وذلك بسبب وقوع خلاف بين مؤسسة العرش الملكى، وبين الكنيسة الإنجليزية، على خلفية زواج الملك تشارلز من عقيلته كاميلا، التى سبق لها الزواج من قبل. ومن ثم سيقع خلاف حول قبول الزواج المدنى الذى جرى، يدخل الدولة فى أزمة دستورية. ويستعرض الكاتب فى تحليله للنبوءة بأن تشارلز سينتصر فى المعركة القانونية، لكنه سيخسر المعركة الإعلامية الشعبية، وهى الأهم، لأن الناس ستتبع الإعلام وتنساق له، وستنتهى المعركة بضغط شعبى على الملك ليتخلى عن الحكم. ويتوقع أن يحدث ذلك فى أكتوبر 2022. الصدمة التالية بحسب الكتاب بأن الذى سيتولى العرش لن يكون الأمير وليم ولى العهد، ولكن الأمير هارى! وفى هذا مفارقة مذهلة، لأن الكتاب بنفسه يصف الأمير هارى بأنه بعيد كل البعد عن الصورة، وكما هو متوقع، فإن الأمير هارى بنفسه سيقع فى مشكلة بدوره مرتبطة بنسبة الحقيقى. لكن الكاتب يعود ويفسر كلام نوستراداموس ويقول بأن الذى سيخلف تشارلز على العرش شخص لا يتوقع أن يصبح ملك، ولكن الكاتب يظن أنه الأمير هارى. ويفتح هذا التوقع الباب امام نظريات المؤامرة التى تملأ صفحات الإنترنت ومواقع التواصل، حيث تسلط بعضها الضوء على الدور الذى تلعبه زوجته ميجان دوقة ساسيكس. فالبعض يشير إلى أن قوة تحركها تزيد من الانشقاق فى العائلة قد يودى بتماسك العائلة ومن ثم يتبعه انهيار الملكية.
وهكذا بالرغم أن منصب الملكية فى بريطانيا تحول من زمان نوستراداموس من ملكية مطلقة إلى ملكية دستورية، بمعنى تملك ولا تحكم، فهى بالكاد لها مقام رمزى، فإن الاهتمام بمصير العائلة المالكة يستحوذ على اهتمام العديد من الناس. وقد يرجع هذا إلى الهالة التى تحاول العائلة المالكة المحافظة عليها بعكس العديد من العروش الأوروبية الأخرى. وعادة تبرز هذه الهالة فى المناسبات الاجتماعية التى يظهرون فيها، مثل حفلات الزواج التى تعيد رسم الحفلات الأسطورية التى كانت تقام فى الماضى لأبناء وبنات الملوك. ولكن النبوءة تتوقع بداية عهد ملىء بالاضطرابات للعرش الملكى البريطانى. فالكتاب يظهر أن كندا، وأستراليا، ونيوزيلندا، وغيرها من الدول الأربع عشرة التابعة للعرش البريطانى ستستقل عن التاج البريطانى. وحاليا، بعد وفاة الملكة لمحت نيوزيلندا لإمكانية عمل استفتاء حول هذا الأمر مستقبلا، وتبعتها كندا. فبعض الدول التابعة للتاج البريطانى تشعر بأن الوقت قد حان لتسمية رئيس للدولة من أبنائها. وقد يكون هذا أمرا مفهوما. لكن السؤال بعدها سيكون عن مصير الكومنولث. ومن غير المتوقع أن يطرأ تغير على تماسك تلك المنظمة العابرة للقارات. فهى مكونة من 56 دولة تحضر اجتماعات دورية كل عامين، كان آخرها فى يونيو 2022 فى كيجالى عاصمة رواندا. وإذا كانت 14 دولة تابعة للتاج، فإن 42 دولة أخرى غير تابعة للتاج، بمعنى لها رئيس مثل دولة الهند، اختارت البقاء طواعية فى منظمة الكومنولث. وحتى لو استقلت او انفصلت الدول الأربع عشرة، فمن المرجح ان تستمر منظمة الكومنولث كما هى بدون تغير. فهمى تجمع يخدم مصالح واسعة، ومن المستبعد التفريط فيه بسهولة. وكانت الملكة تشغل منصب رئيس المنظمة، والآن انتقل المنصب إلى ابنها الملك تشارلز.
•••
إليكم هذه المفارقة من آخر محطات جنازة الملكة الراحلة، فبعد أن وصلت إلى محطتها الأخير فى كنيسة سانت جورج فى قلعة وندسور، وبعد انتهاء مراسم إنزال الجثمان إلى القبو الملكى، بدأ المشيعون من كبار العائلة المالكة فى الرحيل، وسلطت الكاميرا الضوء لثوان على الأمير أندرو دوق كنت وابن عم الملكة أثناء خروجه من الكنيسة وركوبه السيارة. فخرجت بعض التحليلات عن دور الدوق الذى تولى دوقية كنت منذ عام 1942 إثر وفاة والده وكان حينها فى السادسة من عمره. ولكن ما يجذب الأنظار إليه دائما هو المنصب الذى يشغله منذ عام 1967، فهو الأستاذ الأعظم للمحفل الماسونى الكبير فى إنجلترا. وجرت العادة منذ عام 1717 أن يتولى منصب الأستاذ الأكبر للمحافل الماسونية شخص من العائلة المالكة بشرط ألا يكون الملك أو الملكة. ورتبة الأستاذ الأكبر أو السيد الأعظم رتبة تمثل الرئيس الأعلى فى الهيكل التنظيمى للمحافل التابعة. وتمد صاحب المنصب بصلاحيات واسعة. ولأن المسائل المتعلقة بالماسونية تعتبر أمورا بعيدة عن الشأن العام، فإن الحديث عنها يثير اهتمام العديد من الناس. ولذلك كانت الثوانى المعدودة التى سلطت فيها الكاميرا على الأمير كنت كافية لإطلاق جميع نظريات المؤامرة عن معنى حضوره، والدور الذى سيلعبه مع الملك الجديد. وكأن الأمير اندرو ظهر فجأة فى الجنازة، ولم يسر خلف جثمان الملكة فى محطات كثيرة على مدى الأيام السابقة.
على أى حال، لقد وصل العرش البريطانى من العمر ما جعله يتحول إلى بيت من المراسم والبروتوكولات. ولقد تغير الناس والمجتمعات وتغيرت نظرتهم للملكية. فبعد الوفاة التراجيدية للأميرة ديانا عام 1997 توقع العديد اقتراب انهيار الملكية. بينما واقع الأمر، الملكية أصبحت مجرد تجميل للصورة. فحتى فى المملكة المتحدة نفسها، تبحث كل من اسكتلندا وويلز عن الاستقلال بدورهما عن التاج الملكى. ولكن بعض الناس، لاسيما فى الشرق الأوسط، لازالوا يعتقدون بأن أسرار القوة تكمن فى يد بريطانيا، بينما بريطانيا نفسها تجاهد من أجل البقاء.