نشر البروفيسور جون لونيديس أستاذ الطب بجامعة ستانفورد الأمريكية الشهير والعالم متعدد الاهتمامات قائمة تضم ٢٪ من علماء العالم هم الأبرز من حيث عدد أبحاثهم المنشورة فى دوريات علمية دولية موثوقة، وجاء عدد من العلماء المصريين فى هذه القائمة، وهو ما يدعونا للفخر والاعتزاز، خاصة وأن الغالبية الساحقة من بينهم هم من العاملين فى الجامعات العامة، وفى مقدمتهم أساتذة جامعة القاهرة، ومع أن ترتيب مصر فى هذه القائمة هو مشرف على الصعيدين العربى والإفريقى، إلا أن تأمل هذه القائمة يدعونا إلى التفكير فى الأسباب التى يمكن أن تنهض بالبحث العلمى فى مصر بصفة عامة، وفى دراسات الإنسانيات والعلوم الاجتماعية بصفة خاصة وهى مجال تخصص كاتب هذا المقال.
وحتى نعرف أساس اختيار هؤلاء العلماء، وندرك بالتالي أسباب موقع مصر في هذه القائمة يجب أن ندرك ترتيب العلماء في هذه القائمة هو على أساس عدد الاقتباسات أو الإشارات من جانب باحثين آخرين إلى ما كتبوه في أبحاثهم المنشورة في هذه الدوريات العلمية، وهم يحتلون أعلى اثنين في المائة على قمة هذه القائمة، ويمثل العلماء المصريون ٠.٢٥٪ من إجمالي علماء العالم الواردة أسماؤهم فيها، أي ربع من واحد في المائة وترتيب مصر هو السادس والثلاثين من بين كل الدول فيها وبعدد يبلغ ٣٩٧ عالم بالمقارنة بإسرائيل التي احتلت المكانة التاسعة عشر بعدد يبلغ ١٢٩٠عالم والهند التي تحتل المكانة الرابعة عشر بعدد من العلماء يصل إلى ٢٣١٣، وبنسب تصل إلى ٠.٨٪ للأولى، و١.٤٥٪ للثانية. وعلى هذا النحو تحتل مصر الموقع الثاني في هذه القائمة على مستوى الوطن العربي بعد المملكة العربية السعودية، كما تحتل المكانة الثانية في إفريقيا بعد جنوب إفريقيا، وتسبق الدولتين العربيتين في الشرق الأوسط كذلك كل من إيران التي تحتل الموقع العشرين وتركيا التي تحتل الموقع السادس والعشرين. بينما تحتل المواقع الأربع على رأس القائمة الولايات المتحدة وبريطانيا والصين وألمانيا بهذا الترتيب.
اللافت للنظر فى قائمة العلماء المصريين فى هذه القائمة أنهم ينتمون جميعا إلى فروع العلوم الطبيعية والتطبيقية وخصوصا الطب والصيدلة والعلوم والهندسة، ولا ينتمى منهم إلى العلوم الاجتماعية أو الإنسانيات سوى عالم واحد هو الأستاذ الدكتور محمود السعيد عميد كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، وهو ما يشير إلى أن حالة البحث العلمى فى مصر هى بكل تأكيد أكثر تقدما فى فروع العلوم الطبيعية والتطبيقية أكثر منه فى الفروع العلمية الأخرى. فما هو السبب فى ذلك. هدف هذا المقال هو اكتشاف بعض أسباب هذا الوضع، ليس بقصد جلد الذات، ولكن لعل التعرف على الأسباب يمكن أن يكون طريقا لعلاجها فى المستقبل.
إعداد الباحثين فى مجال الإنسانيات والعلوم الاجتماعية
لعل أول أسباب قلة الأبحاث العلمية المنشورة دوليا لأساتذة الإنسانيات والعلوم الاجتماعية فى مصر هى قلة إتقان الكتابة باللغات الأجنبية فيما بينهم وخصوصا اللغتين الإنجليزية والفرنسية، وهما أبرز لغات النشر فى الدوريات العلمية الدولية الموثوقة، وليس السبب فى ذلك هو بالضرورة أن الدراسة فى كليات هذه الفروع العلمية تجرى باللغة العربية، فهذا هو الحال أيضا فى كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة ونسبة النشر باللغات الأجنبية بين أساتذتها وخصوصا فى قسمى الإحصاء والاقتصاد هى من الأعلى بين أساتذة العلوم الاجتماعية فى مصر، وإنما يعود السبب إلى أن أغلب الأساتذة فى هذه الفروع قد تلقوا دراساتهم العالية للماجستير والدكتوراه فى مصر وباللغة العربية على عكس ما كان عليه الحال فى مصر حتى فترة ستينيات القرن الماضى عندما كان يحظى أغلب الخريجين المتفوقين بفرص الابتعاث للدراسة بالخارج على نفقة الحكومة المصرية، ولذلك يكاد يقتصر النشر بلغات أجنبية فى كليات الإنسانيات والعلوم الاجتماعية الأخرى على أساتذة أقسام اللغات وخاصة قسمى اللغة الإنجليزية والفرنسية بجامعتى القاهرة وعين شمس فضلا عن أساتذة كلية الاقتصاد.
هذه الدوريات الدولية الموثوقة تتمتع بما يسمى معامل التأثير Impact factor والذى يعنى مدى الإضافة لمجال العلم والذى يجعل الباحثين الآخرين يستفيدون منه، ولذلك تضع هذه الدوريات شروطا صارمة للنشر فيها لضمان جديته، ويخضع النشر فيها للتحكيم من جانب علماء متخصصين فى مجالها ويتمتعون بالكفاءة وبالنزاهة، ولا يعرف من يتقدم للنشر فيها بهويتهم. وهناك دوريات عربية محدودة تصل إلى أن يكون لها عامل التأثير.
وثانى هذه الأسباب هو عدم المعرفة بأصول البحث العلمى وذلك لقلة الاهتمام بتدريس مقررات مناهج البحث فى أغلب هذه الكليات ربما باستثناء أقسام الاجتماع وعلم النفس، وباستثناء هذين القسمين يجهل معظم الخريجين أن هدف البحث العلمى هو توليد معرفة جديدة وليس اجترار ما وصل إليه آخرون، ولذلك يكاد يتمثل البحث العلمى لديهم فى الاقتباس من كتابات منشورة حتى دون التدقيق فى قيمتها، أى إضافتها للعلم فى تخصصها، بل وحتى دون الوعى بضرورة أن يكون هناك منهج علمى محدد يتبعونه فيما يكتبون أو إطار نظرى محدد يختبرونه إثباتا أو بطلانا.
وثالث هذه الأسباب هو أن البحث العلمى الجاد قد أصبح فى الوقت الحاضر نشاطا جماعيا، لأنه يقتضى جمع معلومات أو بيانات وتحليلها مما قد يصعب على باحث واحد القيام به، أو لأن البحث الجاد هو طموح بطبيعته يقتضى تضافر فريق من الباحثين ليستطيعوا توفير كل ما يتطلبه سواء بتحليل بيانات من مصادر متعددة أو إجراء مقابلات أو تقسيم البحث المكتبى على عدد من أعضائه، ويستلزم ذلك وقتا وجهدا، ولذلك فإما أن يقوم بالبحث من يتفرغون فى بعض الجامعات ومراكزها البحثية للبحث فقط، أو يقتطع القائم بالتدريس جانبا من وقته لإجراء البحث، ونظرا لأن تقاليد العمل الجماعى قد تكون معروفة فى أرياف مصر، ولكنها لم تجد طريقها بعد إلى أساليب عمل المثقفين عموما بما فى ذلك أساتذة الجامعات، يصعب تكوين الفرق البحثية لإجراء مثل هذه المشروعات الجماعية.
وتثير هذه القضية عقبة رابعة أمام البحث العلمى فى مصر، وهى أنه يكلف أموالا، تقدمها فى العادة الجامعات أو المؤسسات البحثية فى الدول المتقدمة ولا يتحملها الباحث من دخله الشخصى. ومع أن هناك مؤسسات فى مصر تقدم التمويل، مثل أكاديمية البحث العلمى، بل وتساهم بعض الجامعات فى تمويل جزئى لنفقات مشاركة أعضاء هيئة التدريس فيها فى مؤتمرات بالخارج يعرضون فيها أبحاثهم، يتلقونه بعد عودتهم للوطن، إلا أن الميزانيات المخصصة لهذه الأغراض لا تكفى لتمويل مشروعات بحثية طموحة. وقد وجدت بعض المراكز البحثية حلا لقضية التمويل هذه من خلال منح تحصل عليها من هيئات أجنبية، وبعلم الأجهزة السيادية فى الدولة، ولكن يبدو أن هذا الباب أصبح مغلقا فى السنوات الأخيرة، ولا داعى هنا للتذكير بأن مرتبات هيئات التدريس الجامعية لا تكاد تكفى أصلا متطلبات الحياة الكريمة مما يجعل أعضاءها يبحثون عن فرص لزيادة دخولهم عن غير طريق البحث العلمى، أو يزهدون العمل الجامعى فى مصر بحثا عن فرص للعمل خارج الجامعة أو خارج الوطن تدر عليهم دخلا يوفر لهم حاجاتهم لمعيشة لائقة لما يبذلونه من جهد وما حصلوه من تعليم.
السياق الاجتماعى للبحث العلمى
ولكن لا تقف عقبات البحث العلمى فى فروع الإنسانيات أو العلوم الاجتماعية على قدرات أعضاء هيئات التدريس أو أوضاعهم المادية، فلا يتقدم البحث فى هذه الفروع إلا فى مناخ يدور فيه النقاش بلا قيود حول قضايا العلم والمجتمع، وتتوافر فيه المعلومات بسهولة، ويحترم مبادئ الحريات الأكاديمية بل وجملة الحقوق المدنية والسياسية.
عرفت بعض الكليات الجامعية تنظيم حلقات علمية أسبوعية أو نصف شهرية يقتصر الحضور فيها على أعضاء هيئات التدريس ولمناقشة قضايا علمية. ويكون المتحدث فيها واحدا من بينهم أو ضيفا أجنبيا معروفا بمساهماته العلمية القيمة. شاركت فى بعض هذه الحلقات التى تسمى بسمنار فى قسم الاجتماع بجامعة عين شمس فى ثمانينيات القرن الماضى، وانتظم هذا السمنار شهريا فى أقسام كلية الاقتصاد والعلوم السياسية الرئيسية الثلاثة، ولكنه توقف فيها، ولم أعد أسمع عنه فى كليات الجامعة الأخرى. وليس لدى تفسير لذلك.
كما تقف صعوبة الحصول على المعلومات عقبة أخرى أمام إجراء البحوث الميدانية وغيرها. بيانات الانتخابات أساسية للعاملين فى حقل العلوم السياسية. وعلى العكس مما سنته الهيئة القومية للانتخابات بعد سنة ٢٠١١ من توفير بيانات تفصيلية عن المشاركة فى الانتخابات وعدد الأصوات التى يحصل عليها كل حزب أو مرشح على مستوى الدائرة الانتخابية، أصبحت الهيئة تكتفى منذ ٢٠١٤ بطرح أعداد المشاركين فى الانتخابات وأصوات الفائزين على مستوى الجمهورية فقط، وهو ما لا يكفى لإجراء أبحاث جادة عن السلوك الانتخابى للمصريين، وتباينه بحسب العمر أو مستوى الدخل أو النوع أو محل الإقامة، كما لم تعد الهيئة تسمح بإجراء استطلاعات الرأى عند خروج الناخب من مركز الاقتراع، وهو ما يوفر مصدرا آخر للبيانات تعرفه دول عديدة فى العالم. كذلك توقفت وزارة الداخلية عن إتاحة تقرير الأمن العام السنوى للباحثين إلا بعد التحرى عنهم لمدة تستغرق شهورا، وهو تقرير كان يتوافر لدى بائعى الصحف فى ستينيات القرن الماضى. وهو ضرورى لدراسة علاقة الجريمة بالأوضاع الاقتصادية والاجتماعية تطورها. بل يكاد يكون من المستحيل إجراء دراسة علمية عن ظاهرة الإرهاب، رغم أهميتها لصانع القرار للخشية مما قد يتعرض له القائم بها. وعندما يدفع الطموح بعض الباحثين إلى التفكير فى الحصول على بيانات من المواطنين أنفسهم بأساليب البحث الميدانى المعروفة من لقاءات مع عينات من المواطنين فى أماكن متفرقة، فإنه يتعين عليهم الحصول على موافقة الجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاءات الذى يستشير أجهزة الأمن العديدة قبل إبداء الرأى بالموافقة أو الرفض. وقد صرح لى مسئول بالجهاز فى سنوات سابقة أنه لا يجب توجيه أسئلة للمواطنين تتعلق بأمور سياسية أو دينية كما لا ينبغى أن يتضمن البحث إجراء مقارنة بين مصر وأى دولة أخرى. ويصل الشك بالمسئولين الأمنيين إلى حد تصور دوافع أخرى عندما يتصدى باحث مصرى أو أجنبى لقضية هى لقمة العيش بالنسبة لعلماء الاجتماع فى جميع دول العالم، وهى أوضاع المهمشين فى المدن.
ولا تقف عقبات البحث الاقتصادى والاجتماعى فى مصر عند حد صعوبة الحصول على بيانات، بل تمتد إلى التشكيك من جانب كبار المسئولين فى نتائج أبحاث اعتمدت أساسا على البيانات الرسمية، وذلك بعد نشر هذه الأبحاث. أو وقف نشرها أصلا، وقد كان المثل الأول رئيس وزراء سابق اعترض على تحليل عن الوضع الاقتصادى فى مصر نشره مركز أبحاث الدول النامية بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية فى بداية العقد الأول من القرن العشرين، والمثل الثانى هو الاعتراض رسميا على نشر آخر عدد من تقرير التنمية البشرية فى مصر لأنه تعرض لقضايا الفقر وعدم المساواة فى المجتمع المصرى.
فى ظل هذه الأوضاع يكون مفهوما لماذا يتخلف علماء الإنسانيات والعلوم الاجتماعية عن القفز إلى قمة قائمة جامعة ستانفورد للاثنين فى المائة من أبرز علماء العالم. نجا أقرانهم من علماء الطبيعة والدراسات التطبيقية من قيود الحرية الأكاديمية والحريات المدنية والسياسية فى مصر.