دخلت المواجهة بين الجماعات المتمردة على الدولة والمجتمع عامها الثانى، وبينما طورت هذه الجماعات من أساليبها استمرت الحكومة فى اتباع نفس الأساليب، مما يرجح استمرار هذه الأعمال الإرهابية إلى أجل غير منظور. ولذلك ربما يكون من المفيد مقارنة الحالة المصرية بحالات دول أخرى واجهت حكوماتها حركات إرهابية وانتهت هذه المواجهة بعد أن كبدت الدولة والمجتمع ثمنا فادحا، وربما تكون حالة الحرب الأهلية فى الجزائر 1991ــ2002، وحالة الجماعات اليسارية المتطرفة فى ألمانيا وإيطاليا واليابان هما النموذجان النقيضان اللذان يمثلان، مع ما يقع بينهما من حالات، كل السيناريوهات المتوقعة لما يمكن أن يحدث فى مصر.
هل سيستمر الإرهاب فى مصر؟
ليس هناك ما يدعو للاعتقاد بأن موجة الإرهاب التى تضرب البلاد منذ أغسطس 2013، حتى ولو كانت لها بدايات قبلها، ستنحسر فى الأجل القريب. فقد طورت الجماعات المتمردة المنخرطة فى هذه الأعمال من أساليبها، وعلى الرغم من شدة رد فعل الحكومة تجاه هذه الأعمال، إلا أن أسلوب الحكومة فى المواجهة على حاله لم يطرأ عليه تغيير، ولما كان المسئولون عن أهم هذه الهجمات مثل اغتيال المستشار هشام بركات النائب العام وبعض الهجمات الأخرى على القوات المسلحة فى سيناء وفى الفرافرة قد نجوا حتى الآن ولم تعرف أجهزة الأمن لا شخصياتهم ولا أماكن تواجدهم، لذلك فالاحتمال الأغلب أن تستمر هذه الجماعات المتمردة فى أعمالها الإرهابية.
لقد انتقلت هذه الجماعات من تنظيم المظاهرات والمسيرات الاحتجاجية والتى تتواصل حتى الآن فى الأحياء الفقيرة نسبيا فى القاهرة وفى مدن الوجه البحرى والفيوم ــ وإن كان على نطاق صغير ــ إلى أن أصبحت تستهدف مرفقى النقل والطاقة بوضع المتفجرات على قضبان السكك الحديدية وأسفل أبراج الكهرباء، ثم تحولت نوعيا إلى الأعمال المسلحة عالية التنظيم بالهجوم مباشرة على مواقع القوات المسلحة والشرطة واستهداف الشخصيات العامة، وأخيرا باختطاف أجانب وقتلهم بعد الادعاء بمطالب مقابل إطلاق سراحهم.
ولاشك فى ضخامة التحدى الذى أصبحت هذه الجماعات تمثله لأجهزة الأمن، فمع وجود جيش احتياطى كبير لهذه الجماعات يتمثل فى شباب الجماعات الإسلامية كلها الذين ضاقوا بخلع حكم تصوروا أنه إسلامى وبما جرى فى ميدانى رابعة العدوية والنهضة فى أغسطس 2013، واستمرار الملاحقات الأمنية لزملائهم، ومع وجود مصادر للدعم الخارجى تملك أسلحة متقدمة خصوصا فى ليبيا، ومع اتساع ميدان المواجهة من سيناء إلى الصحراء الغربية ومدن الوجه البحرى وبعض محافظات الصعيد، أصبحت أجهزة الأمن تواجه موقفا غير مسبوق، ومع افتقادها للمعلومات الصحيحة عمن يقومون بهذه الأعمال، لم تجد أمامها سوى ملاحقة جماعة الإخوان المسلمين المعروفة لديها وكذلك من تشك فى أنهم يتعاطفون معها بإلقاء القبض على قياداتها العليا والوسيطة، وإغلاق الجمعيات الأهلية التى تعتقد بكونها ستارا للجماعة والتحفظ على أموال قياداتها ورجال الأعمال الذين تتصور أنهم مناصرون لها، وبتشديد العقوبات على ما تصفه بأنه أعمال إرهابية والنص على إنشاء محاكم خاصة للإرهاب واختصار مدة محاكمة المتورطين فيه. وعلى الرغم من كل هذه الإجراءات المتشددة تستمر الأعمال الإرهابية بكل أنواعها، بل وتضيف هذه الجماعات الجديد الذى لم تتوقعه أجهزة الأمن، مثل اختطاف المهندس الكرواتى وقتله فى جريمة بشعة تفتقد كل تبرير، وخصوصا أنه لا يمكن نسبتها للإسلام الحنيف الذى تدعى هذه الجماعات انتسابها له.
وليس هناك ما يدعو للاعتقاد بأن التعديلات التشريعية التى تضمنها ما يسمى بقانون مكافحة الإرهاب وبكل ما يصمها بشبهة عدم الدستورية يمكن أن تمثل رادعا لهذه الجماعات، فلا التجربة الدولية توحى بذلك، ولا خصوصية الظاهرة الإرهابية فى مصر. ذكرت فى مقال سابق أن الولايات المتحدة هى الوحيدة تقريبا بين الدول المتقدمة التى تأخذ بعقوبة الإعدام، ومع ذلك فسجونها هى من بين الأشد اكتظاظا فى العالم، ومعدلات الجريمة فيها هى الأعلى بين الدول المتقدمة. كما أن خصوصية الجماعات الإرهابية فى مصر تستبعد ذلك، فالنشطاء فى هذه الجماعات يعتقدون أنهم يخوضون حربا مقدسة ضد عدو كافر، والموت فى النضال ضد هذه الحكومة هو فى رأيهم استشهاد سوف يكافأون عليه بالجنة فى الحياة الآخرة. ولن تجدى مواعظ دار الإفتاء ولا تصريحات شيوخ الأزهر فى تحويلهم عن هذا الاعتقاد، فالقائمون على هذه المؤسسات هم فى رأيهم من فقهاء السلطان. طبعا لا يعنى هذا التحليل التوقف عن قيام دار الإفتاء والأزهر الشريف بالدور المنوط بهما فى نشر الفهم الصحيح للإسلام، بل وعن نشر المراجعات القيمة التى قامت بها الجماعة الإسلامية فى أواخر تسعينيات القرن الماضى، والتى انبرت لتوضيح المفهوم المستنير للجهاد فى الدين الكريم.
وعلى الرغم من كثرة النصائح لأجهزة الأمن أن تهتم بدرجة أكبر بالتسلح بالمعلومات الدقيقة عن الجماعات الإرهابية، وبعدم اللاستسلام للتفسيرات الجاهزة عن مسئولية جماعة الإخوان المسلمين عن كل هذه العمليات وخصوصا تلك التى تتطلب إعدادا متقنا وتنظيما عاليا وكوادر مدربة، وعن كون حركة حماس هى مصدر التسليح والتدريب لهذه الجماعات، وأن يتضمن أسلوبها فى المواجهة أفقا سياسيا جاذبا، فلا يبدو أنه كان لهذه النصائح أثر على أسلوب الحكومة فى المواجهة.
ما هو السيناريو المحتمل؟
كما ذكرت مقدمة هذا المقال، هناك سيناريوهان لتطور مثل هذه المواجهات بين جماعات مسلحة وحكومة يساندها أغلب المواطنين. وهناك سيناريوهات وسيطة بينهما. السيناريو الأول هو السيناريو الجزائرى، والذى تمثل فى حرب أهلية استمرت إحدى عشرة سنة (1991ــ2002ــ)بين جبهة الإنقاذ الإسلامى والجماعات الإسلامية المساندة لها من جانب والجيش الجزائرى من جانب آخر، والسيناريو الثانى هو حملات الإرهاب التى قادها فى ألمانيا جماعة بادر ماينهوف وفى إيطاليا الكتائب الحمراء وفى اليابان جناح الجيش الأحمر خلال فترة السبعينيات من القرن الماضى. وكل هذه الجماعات تنتمى إلى معسكر اليسار المتطرف والذى كان ناقدا لكل من الأحزاب الاشتراكية والشيوعية فى البلدان الثلاثة. ونظرا لضيق المساحة يركز هذا المقال على بادر ماينهوف فى ألمانيا.
كانت بداية الحرب الأهلية فى الجزائر هى الانقلاب العسكرى الذى أطاح بحكومة بن جديد فى الجزائر وإلغاء نتيجة المرحلة الأولى من الانتخابات التشريعية التى فاز فيها حزب جبهة الإنقاذ الإسلامى، وكان من المرجح أيضا فوزها بالأغلبية فى المرحلة الثانية من الانتخابات التشريعية، التى ألغتها أيضا سلطة الانقلاب، وكانت الجبهة فازت فى العام السابق (190) بالأغلبية فى انتخابات المجالس المحلية والإقليمية. ولذا بدا العمل الذى قامت به القوات المسلحة الجزائرية انقلابا على الشرعية، أعقبه دخول البلاد فى حرب أهلية اقترنت بممارسات بشعة من جانب الطرفين: جبهة الإنقاذ الإسلامى وذراعها الحركة الإسلامية المسلحة وجماعة مناصرة لها هى الجماعة الإسلامية المسلحة، وجماعة سلفية أخرى انتهى الأمر بانضمامها إلى تنظيم القاعدة، والجانب الآخر هو القوات المسلحة الجزائرية. استهدفت الجماعات المسلحة مدنيين عزل وخصوصا بين النساء والفنانين والمثقفين، وتذكر المصادر أن ضحايا هذه الحرب تراوحوا بين أربعة وأربعين ألف ومائتى ألف مواطن من بينم سبعون صحفيا فضلا عن مائة من الأجانب. لم يقدر لهذه الحرب الضروس أن تنتهى إلا مع بداية تحول نحو حكومة مدنية منتخبة يساندها الجيش ومع انتخاب عبدالعزيز بو تفليقة رئيسا للبلاد فى 1999، والذى طرح عفوا عاما وأطلق سراح قادة جبهة الإنقاذ الإسلامى وإن لم يسمح لحزبها بأن ينخرط فى الحياة السياسية، ولكنه سمح لحزب إسلامى آخر هو حزب مجتمع السلم بأن يمارس العمل السياسى وكان مرشحه فى الانتخابات الرئاسية يحظى بقرابة 25% من الأصوات، ويعرف هذا الحزب فى الجزائر بأنه الفصيل الجزائرى للإخوان المسلمين.
والسيناريو الثانى هو السيناريو الألمانى. جماعة بادر ماينهوف والجماعتان المماثلتان لها فى إيطاليا واليابان ترفض الانتخابات البرلمانية وتعتبرها ديمقراطية بورجوازية زائفة، وتؤمن منذ البداية بالعمل المسلح، وكان لكل من الجماعتين الألمانية والإيطالية بعض النجاح. اختطفت الأولى وقتلت عددا من رجال الأعمال ومنهم محافظ البنك المركزى واختطفت الثانية رئيس وزراء إيطالى سابق (ألدو مورو) وقتلته. ولكن لم يكن هناك تأييد شعبى واسع لأى من هذه الجماعات. نجحت أجهزة الأمن فى الدول الثلاث فى التوصل إلى قادة هذه الجماعات بل ومعظم أعضائها وقدمتهم للمحاكمة، وذلك بعد أن بلغ ضحايا من قتلتهم جماعة بادر ماينهوف أربعا وثلاثين معظمهم من المواطنين الألمان. ولم يكن هناك أى أفق سياسى مطروح عليها، فكل هذه الجماعات لا تؤمن بما تعتبره ديمقراطية زائفة، ولذلك لم يكن لها مكان داخل هذه الديمقراطية. وانتهت بذلك تدريجيا قصة هذه الجماعات فى البلدان الثلاثة.
***
أين سيكون مستقبل مصر بين هذين السيناريوهين؟ أجهزة الأمن لدينا تعتقد، ضمنا، بالسيناريو الألمانى، ويساندها فى ذلك قسم من الرأى العام، أى ضرورة الإقصاء الكامل لجماعة الإخوان المسلمين والمناصرين لها، بينما تختلف هذه الجماعة عن جماعات اليسار المتطرف فى الدول المتقدمة فى أن لها ظهير شعبى حتى وإن اختلفت الآراء فى تقدير حجمه، وأنها تقبل بالمشاركة فى الحياة السياسية، كما أنها فازت من قبل فى الانتخابات، ومن ثم تدعى أن ما جرى لها كان عدوانا على الشرعية.
لا أذكر ذلك تأييدا لمطالب هذه الجماعات ولكن لأوضح مدى تعقيد الحالة المصرية واختلافها عن حالات الدول المتقدمة التى نجحت أجهزة الأمن فيها فى الإقصاء الكامل لجماعات اليسار المتطرف التى ترفع راية الكفاح المسلح. لا أظن أن مصر مقبلة على ما يشبه السيناريو الجزائرى، ولكن لا أعتقد أن السيناريو الألمانى ممكن كذلك.