الانتماء العربى لمصر يتقدم الدوائر الثلاث التى تشكل جوهر السياسة الخارجية لبلد صاحب هوية فرضتها الجغرافيا وعبد طرقها التاريخ الطويل من الارتباط العربى والإفريقى والإسلامى، وهى دوائر بقدر ما لها من فوائد تعود بالنفع على مصر، وتعزز من مكانتها على الصعيد الدولى، تفرض على المصريين تحمل تبعات، من وقت لآخر، لتأكيد صدق الدور والانتماء.
فى خمسينيات، وستينيات القرن العشرين، واجهت مصر سلسلة من الاختبارات التى كشفت عن مخزون حضارى قابع تحت الطبقات المتراكمة لجينات المصرى، فكانت القاهرة قبلة للثوار العرب والأفارقة والباحثين عن تحرير أوطانهم من ربقة الاستعمار فى كل مكان، ودفعت مصر عن طيب خاطر فواتير مضاعفة من قدراتها المادية والبشرية تكريسا لدور لا يمكنها التخلى عنه إلا فى فترات الضعف التى تواجه الأمم والشعوب أحيانا.
وقتها لم يعرف المصرى لغة «المعايرة» لمن جاءوا إليه طالبين العون والمساعدة لتجاوز أوطانهم المحن، وإن طالت فهى بعمر الزمان قصيرة، فعاش أشقاء عرب وأفارقة فوق الربوع المصرية بكل كرامة واحترام، ولم يجدوا من يلاحقهم أو يتعمد التضييق عليهم بدافع من كراهية، أو عنصرية قد تعترى أصحاب النفوس الضعيفة فى بعض البلدان.
لكن أتى على مصر حين من الدهر فقدت فيه بوصلة التوجه الصحيحة، وتراجع الاهتمام بالدائرتين: العربية والإفريقية، وظهرت فى ثمانينيات القرن الماضى، نبرات، ونعرات، تعتقد أن الانكفاء على الذات يمكن أن يصنع بلدا قويا، متجاهلة عن عمد أن قيمة مصر وقدرها فى تفاعلها مع محيطها العربى وعمقها الإفريقى.
وأذكر أن أصواتا مضللة، راحت تشكك فى عروبة مصر، وصدق انتمائها العربى، قبل أن تزحف إلى سطور وأعمدة بعض الصحف المصرية فى منتصف الثمانينيات نعرة شوفينية يغذيها تيار القطيعة مع مصر عقب اتفاقيات كامب ديفيد ونقل الجامعة العربية إلى تونس، لكن سرعان ما خمدت هذه الصيحة الزائفة بعودة الجامعة واستعادة القاهرة لكامل علاقاتها مع أشقائها العرب.
يومها وفى خضم التشكيك فى عروبة مصر رحت وعدد من الزملاء نجرى سلسلة من الحوارات واللقاءات مع كبار المثقفين وقادة الرأى لاستجلاء أهداف تلك الحملة المسعورة ضد الانتماء العربى للمصريين، فطرحت سؤالا بسيطا على نقيب المحامين الراحل والقامة القانونية الكبيرة أحمد الخواجة، هل نحن عرب؟!
بابتسامة استوعبت القصد من وراء السؤال رد «هل تكذب لسانك العربى المبين، وتصدق أصحاب الغرض والمرض ممن لا يريدون لمصر سوى التراجع عن أسس قوتها، وأعمدة رفعتها، لصالح قوى تتربص بنا ليل نهار، فنراها تشجع على ما يزعزع ثقتنا فى ذواتنا، ويضرب فى جوهر هويتنا، ويسعى لاقتلاعنا من جذورنا الراسخة.. يا بنى لا يشكك فى عروبة مصر إلا جاهل أو مٌضلل».
لكن، حتى اليوم، هناك من ينظر لكل ما هو عربى بعين الريبة، ويحاول استغلال حادثة هنا أو هناك لإشعال نيران الفتنة والكراهية بين الأشقاء، وهو ما أراه غير بعيد عن تصيد البعض للخلاف الذى وقع بين سيدة مصرية ومواطن عربى سورى يمتلك مطعما فى الإسكندرية. فقد شاهدنا كيف خرجت الحيات من جحورها لبث سمومها. ربما تكون الواقعة فى بعض جوانبها سليمة مائة بالمائة، لكن النفخ فيها وتضخيمها لم يكن لوجه الله والوطن.
فبعد أن فشلت بعض الأصوات فى التحريض ضد النشاط الاقتصادى لبعض الأشقاء السوريين فى مصر، قبل شهور، عندما تصدى لها بكل حسم غالبية من عقلاء هذا البلد، مسئولين ومثقفين، عاود الكارهون لكل ما هو عربى الكرة مرة أخرى مع واقعة مطعم الإسكندرية الذى لم يكن إلا ذريعة لإخراج أحقاد دفينة، يبحث أصحابها عن فرصة لترويجها، فكانت فتنة التواجد السورى فى مصر ستارا لمآرب أخرى.
سوريا تمر بمحنة، والأشقاء السوريون جاءوا إلى بلدهم، ككل الأشقاء الذين يهبطون مصر آمنين، خاصة وقت الشدة، فلا تفقدوا هويتكم، ولا تنسوا دوركم، ولا تمنحوا من يتربصون فرصة لتجريدنا من جوهر الروح المصرية الأصيلة التى شكلت «فجر الضمير» الإنسانى.