جميعنا لهم ذكرياتهم مع شهر رمضان المبارك، غالبيتها يرتبط بأيام الطفولة أو مرحلة الصبا، ونقول ذكريات لأنها باتت لمن يسترجعها فى خياله شيئا من الماضى الذى لن يعود، فهى خليط من الوقائع والأحلام التى ربما نهرب إليها بحثا عن عالم «تسرب من بين ايدينا»، على رأى الشاعر الراحل سيد حجاب.
الذكريات التى أقف عندها اليوم هى لشاعر مصرى آخر، أغوته النداهة فى مطلع السبعينيات من القرن العشرين، فرحل إلى نيويورك، المدينة التى لم تعوضه، رغم مرور خمسين عاما، دفء «شمس القاهرة»، ورائحة تراب شوارع شبرا التى لا تزال تلامس أنفه كلما تتساقط ثلوج الغربة.
قبل أيام بث شاعر المهجر والمهندس فرانسوا باسيلى، على صفحته على موقع «فيسبوك» جانبا من ذكرياته مع فانوس رمضان استأذنته فى إعادة نشر بعض من سطورها فى هذا المقال، حتى نسترد جزءا من وعينا المفقود الذى جارت عليه عوامل التعرية، فتاه فى أزقة وحوارى التعصب المقيت.
تحت عنوان «ذكريات رمضانية مسيحية» يقول الشاعر فرانسوا باسيلى إن «الذكريات الرمضانية الجميلة فى مصر ليست حصرا على المسلمين، وأعتقد أن أغلبية المسيحيين يشاركوننى فى هذا، وأتذكر كيف كنت، وشقيقى الأصغر سمير، نلح على والدى فؤاد أفندى باسيلى قبل رسامته كاهنا قبطيا باسم بولس باسيلى، ليشترى لنا فانوس رمضان».
والد شاعرنا، وقبل رسامته كاهنا، كان رجل دين مسيحى وأستاذ كرسى الوعظ الدينى فى الكلية الإكليريكية بمهمشة، وكان يصدر مجلة دينية اسمها مارجرجس، كما ذاع صيته كواعظ قدير فى كنائس مصر كلها من أسوان للإسكندرية، ويقول باسيلى المولود فى ديسمبر عام 1943: «لم أكن واعيا ولا مهتما بكل هذا، فكل ما يهمنى هو أن يشترى لى فانوس رمضان».
تحت إلحاحه أخذه والده «إلى شارع الترعة حيث كانوا يبيعون الفوانيس على الأرصفة وليس فى المحلات، واشترى لى فانوسا جميلا أسرعت به فرحا إلى البيت، ورحت أفتح بابه الزجاجى بإطاره الصفيح الفضى وأغلقه وأنا فى دهشة وإعجاب بميكانيكية الفتح والإغلاق لهذا الباب الصغير لفانوس بدا لى أقرب إلى الفانوس السحرى».
أمسك فرانسوا الصغير بالفانوس من حلقته العليا بعد أن أوقد شمعته، ورح يقلد الأولاد الذين كان يراهم فى شارع الأفضل من بلكونة الطابق الثانى لمنزله وهو يغنى: «وحوى يا وحوى، ، إياحه، وحوى يا وحوى.. إياحه».
ويتابع «أفكر فى هذه الذكريات ولا استغرب كثيرا رغم ما بها من بعض الغرابة، فلا أعتقد أن أحدا آخر من رجال الدين المسيحى وقتها، وربما ولا الآن، يشترى لأولاده فوانيس رمضان، ولكنى لست مندهشا لأن والدى كان منفتح الذهن والقلب بشكل طبيعى وبلا مجهود، لم أسمعه فى أى عظة من عظاته يهاجم دين الآخرين أو مقدساتهم».
ولأن والده «كان يخدم الجميع، انتخبه المسلمون والأقباط نائبا عن شبرا فى مجلس الشعب عام 1971، ليكون أول كاهن قبطى يدخل البرلمان».
هذه الأجواء التى تربى فى كنفها فرانسوا باسيلى، تجعلنا نفهم مدى تعلقه من شغاف قلبه بوطنه مصر فى كل قصائده ومقالاته التى ينشرها فى الصحف والمجلات الأدبية المصرية والعربية. وللشاعر المهاجر خمسة دواوين شعرية بينها «شمس القاهرة، ثلوج نيويورك» صدر فى 2017 و«لوعة اللوتس» فى 2018 عن الهيئة المصرية العامة للكتاب.
فرانسوا باسيلى يحتاج من صحافتنا الثقافية إلى جهد أكبر للتعريف بنتاجه الشعرى وتجربته فى المهجر، وأختم بمقطع من أحدث قصائده التى تحمل عنوان «الروح تخرج من المدينة»:
قالت الممرضة للرجل المسن
المصاب بالفيروس.. اطمئن، اطمئن
أحضرت لك جهاز التنفس الاصطناعى
فابتسم المهاجر المريض فى وهن
وقال يا عزيزتى
لم أتنفس تنفسا طبيعيا
يوما واحدا
منذ أن تركت الوطن.