تكشف ردود الفعل الشعبية والرسمية منذ فترة أن بيننا وعالمنا المعاصر فجوة هائلة فى الإدراك. نحن ندرك أسباب اهتمام العالم المعاصر فى الشرق والغرب، وفى الشمال والجنوب بنا على نحو يخالف تماما الحقيقة. وإذا كانت لا تروق لنا بعض المواقف التى تنتقد ما يدور فى بلادنا، فنحن لا نفتش فى أمورنا ونبحث عن ما ولَّد هذه المواقف، ولكن نسرع بمحاكمة نيات من اتخذوا هذه المواقف، ودائما نكتشف فيها عداء لمصر على الأقل، أو على الأكثر مؤامرة كونية ضدنا، ولن نعدم الدليل ــ الذى لا يستند إلى منطق، بأن أصابع الإخوان أو قطر هى وراء هذه المواقف. وعندما تحاول دوائرنا الرسمية الرد فى صورة بيان تصدره وزارة الخارجية، أو تعليق بدون إمضاء مما أصبح تحفل به صحافتنا المسماة بالقومية، فإنه يكون دائما من قبيل أن هؤلاء لا يعرفون حقيقة الأوضاع فى مصر، وهو أمر مدهش فى عصر ثورة المعلومات، وأن مثل هذه الواقف تصدر عمن يخصصون جانبا كبيرا من وقتهم لمتابعة ما يجرى فى مصر، وبالاعتماد على مصادر متنوعة، ومنها بكل تأكيد مصادر مصرية.
قد يتساءل البعض، وما هو وجه الخطورة فى ذلك؟ ألسنا أحرارا فى تفسير ما يجرى حولنا من أحداث، كما أنهم أحرار فى فهم ما يدور فى بلادنا؟ الإجابة عن ذلك لها شقان، فعلى المستوى الشعبى، من المفترض أن يرتقى فهمنا للعالم، لأن الفهم الصحيح هو أساس الحوار والتفاعل المثمر مع الآخرين. ونظرا لأن علينا أن نعترف بأن هؤلاء الآخرين هم أكثر تقدما منا علميا واقتصاديا وسياسيا، بل وأقول أيضا خلقيا على الأقل فيما يتعلق بثقافة العمل التى يظهرون فيها جدية تفوق بكثير ما نراه فى بلادنا، فإن فهمنا الصحيح لهم، لقيمهم ومؤسساتهم هو الذى يجعلنا نستفيد مما حققوه من تقدم فى جميع المجالات، وأقصد بالآخرين هنا أساسا شعوب الغرب، وهى التى لدينا مشكلة كبرى فى فهمها، وإن كان عدم الفهم والتقدير يمتد إلى شعوب شرق آسيا كذلك، وقد يكون ذلك موضوع مقال آخر.
كما أن الخطر فادح على المستوى الرسمى، فإذا لم يكن صانعو القرار فى بلدنا يعون على النحو الصحيح القيم والمؤسسات التى تكمن وراء مواقف الغرب منا، فإننا سوف نوجه سهام سياستنا الخارجية فى الاتجاه الخاطئ. نعتمد على الزيارات الرسمية مع المسئولين الحكوميين ونكتفى بها، غافلين عن أنه إلى جانب السلطة التنفيذية فى هذه الدول هناك مؤسسات تشريعية قوية، ومراكز فكر مؤثرة ورأى عام فاعل، وما نكسبه من أحاديث ودية من جانب القادة الحكوميين فى هذه الدول يمكن بسهولة أن نفقده إذا لم تكن هذه المؤسسات الأخرى متعاطفة معنا ومتفهمة لأوضاعنا.
حتى لا يكون هذا الحديث سباحة فى الفضاء، سأضرب بعض الأمثلة على البون الشاسع بين تفسير أقسام من الرأى العام لدينا لبعض القضايا التى عكرت صفو علاقاتنا ببعض الدول الغربية، وأجتهد فى نهاية المقال لاقتراح أسباب هذا التباعد الكبير فى إدراكات كل طرف لما يجرى لدى الطرف الآخر.
***
خذوا مثلا قصة الشابة الأمريكية المصرية آية حجازى التى سجنتها سلطات الأمن فى مصر ثلاث سنوات بدون محاكمة إلا فى الأسابيع الأخيرة، وبتهم عديدة منها المتاجرة بأطفال الشوارع، واستغلالهم جنسيا، والتحريض على العنف. وجرى الإسراع بمحاكمتها وإطلاق سراحها بعد الزيارة الأخيرة للرئيس السيسى للولايات المتحدة والتى التقى فيها بالرئيس دونالد ترامب الذى أثار قضيتها معه. رحلت آية حجازى بعد أن حكمت المحكمة ببراءتها مما وجه إليها من اتهامات، وذلك على متن طائرة عسكرية أمريكية حملتها إلى واشنطن حيث التقى بها الرئيس الأمريكى. كانت القضية الكبرى التى شغلت الرأى العام المصرى هو عن أسباب اهتمام الرئيس الأمريكى بها ألا يؤكد كل ذلك لدى الرأى العام المصرى أنها كانت بالفعل جاسوسة، وهذا هو مبعث انشغال الرئيس الأمريكى بها وحفاوة استقبالها والتغطية الواسعة التى لقيتها هذه القصة فى الصحافة وشبكات التليفزيون الأمريكية. هنا يوجد البون الشاسع بيننا وبينهم. لم يتساءل أى ــ أو معظم ــ كتاب الرأى ومعلقو الشاشات التلفزيونية ــ لماذا تقضى هذه الشابة سنوات ثلاث فى السجن بدون محاكمة؟، ولماذا يلقى نفس المصير كثيرون لا أجزم بعددهم، لأن وزارة الداخلية لا تفصح لنا عن عدد من هم قيد الحبس الاحتياطى بينما تقدرهم مصادر لأخرى بآلاف أو حتى عشرات الآلاف. وبعد الحكم ببراءتها ألا تنبغى مساءلة بل والتحقيق مع من وجهوا لها هذه الاتهامات التى لم يقم عليها دليل وبرأتها المحكمة منها. وأنا أربأ بتلك المحكمة أن تكون قد أصدرت الحكم بالبراءة بعد إشارات تلقتها من «جهات عليا».
كان أطرف التفسيرات لرحلة آية حجازى من سجون مصر إلى البيت الأبيض هو ما ذكره أحد كتاب الأعمدة اليومية فى صحيفة بارزة من أنها قضت هذه السنوات الثلاث فى السجن لأن علاقاتنا كانت متوترة مع باراك أوباما الرئيس الأمريكى السابق، وتحسنت مع دونالد ترامب، أى أن كاتب العمود الشهير لم يخجل من مضمون تحليله، وهو أن الشابة الأمريكية دفعت ثمن سوء علاقاتنا الرسمية بالرئيس الأمريكى السابق، ولم تجد الحكومة المصرية من تصب عليه غضبها من أوباما إلا آية حجازى، وخصوصا ونحن نعتبرها مصرية قبل أن تكون أمريكية مائة فى المائة، وكأنه يوجد فى الولايات المتحدة، بلد المهاجرين، من هم أمريكيون مائة فى المائة.
نحن لا نتصور أن مصير مواطن واحد يمكن أن يكون موضع اهتمام الرأى العام الأمريكى والحكومة الأمريكية. وأظن أن هناك أمثلة كثيرة على اهتمام الحكومة الأمريكية وشعبها، كما هو الحال فى أوروبا الغربية، بمواطنين شاء سوء حظهم أن يقعوا ضحايا لحكومات تشبه حكومتنا فى إيران وفى الصين وغيرها مما لا تعيننى عليه ذاكرتى فى الوقت الحاضر. نحن لا نقدر على تصور أن الفرد له قيمة فى هذه المجتمعات، وأنها وإن كانت تنتهك حقوق المواطنين فى دول أخرى خلال ماضيها الاستعمارى أو من خلال عمل أجهزة استخباراتها إلا أن مواطنيها لهم قيمة خاصة مما يستوجب عليها الدفاع عنهم ودرء ما يقع عليهم من ظلم. وقصة آية حجازى حافلة بالكثير من المظالم التى دعت الرأى العام الأمريكى إلى التعاطف معها. ولكننا نغض الطرف عن ذلك ونجتهد فى البحث عن دلائل لا وجود لها تثبت أنها كانت «جاسوسة».
الواقع أن الاتهام بالجاسوسية لآية هو أمر يثير السخرية على ضوء التفاهمات بين أجهزة الاستخبارات لدينا والمخابرات المركزية الأمريكية. تسليحنا أتى طوال السنوات السابقة على ثورة يناير من الولايات المتحدة الأمريكية، وضباطنا ذهبوا للتدريب هناك. ولا يكاد يمر أسبوع دون أن تكون هناك زيارات متبادلة بين كبار العسكريين ومسئولى الاستخبارات الأمريكية ونظرائهم المصريين. وكانت هناك مناورات بحرية مشتركة بين أسطولنا وقوات بحرية أمريكية الأسبوع الماضى. وبعض صحفنا حافلة بالتقارير عن أوضاعنا الداخلية. بل ومؤسسات استطلاع الرأى العام الأمريكية تجرى استطلاعاتها فى مصر بعلم وموافقة السلطات المصرية. فضلا على أن الرئيس السيسى فى زيارته الأخيرة للولايات المتحدة ذهب إلى مقر المخابرات المركزية الأمريكية وبصحبته السيد خالد فوزى رئيس المخابرات العامة لبحث أوجه التعاون بين المؤسسة الأمريكية ذائعة الصيت والأجهزة المقابلة لها فى مصر. هل بعد ذلك كله تحتاج الحكومة الأمريكية آية حجازى لجمع معلومات استخبارية عن مصر من خلال عملها مع أطفال الشوارع؟.
***
والقصة الثانية التى تظهر اتساع المسافة بين فهمنا وفهمهم سواء لدى الرأى العام أو الأجهزة الرسمية هى قصة المأسوف عليه جوليو ريجينى. كانت آية رغم سنوات السجن الثلاث أسعد حظا من جوليو لأنها عادت إلى وطنها سالمة على الأقل بدنيا، وعاد جوليو إلى إيطاليا جسدا ميتا ومشوها. لم تثبت عليه تهمة تجسس، فقد كان ما يقوم به هو العمل البحثى الميدانى المألوف فى حقل العلوم الاجتماعية. تصور أنه سيعود إلى جامعة كامبريدج العريقة برسالة للدكتوراة تشهد على تفوقه فى فهم نظريات علم الاجتماع وإجادته فنون البحث الميدانى. ولكننا لم نر فيما يقوم به سوى مؤامرة وعملا من أعمال الجاسوسية. فلماذا يهتم خواجة بأوضاع الباعة الجائلين فى مصر؟. لابد أن هناك سرا وراء ذلك. لم ينجح من ألقوا القبض عليه وعذبوه فى العثور على هذا السر رغم كل المماطلة فى الاستجابة لطلبات الحكومة الإيطالية بكشف اللثام عمن ألقوا القبض على جوليو، وكيفية عثور شرطتنا على حقيبته الخاصة وجواز السفر الخاص به. توترت العلاقات مع إيطاليا ولم يعد سفيرها إلى القاهرة، وقاطعنا مئات الآلاف من سياحها، ونحن لا نجرؤ على الاعتراف بالأخطاء، ويصدق الرأى العام فى بلادنا أن جوليو كان جاسوسا أو أن قوة معادية هى التى اختطفته، وغالبا هم الإخوان المسلمون. لن ينسى الإيطاليون جوليو لأنهم مثل الأمريكيين يقيمون وزنا للفرد عندهم.
بسبب هذه المسافة الشاسعة بين فهمنا وفهمهم تأتى ردود فعلنا الرسمية خالية من المصداقية. بدلا من أن نعترف بصحة ما قاله خبراء أمريكيون أمام الكونجرس الأمريكى من أن لدينا مشكلة كبرى فى أوضاع حقوق الإنسان، نتهم هؤلاء الخبراء بأنهم معادون لمصر، وأن الولايات المتحدة بها أيضا انتهاكات لحقوق الإنسان. طبعا توجد فى الولايات المتحدة انتهاكات لحقوق الإنسان، ولكن شتان ما بين سلطة الرئيس المحدودة واستقلال السلطة التشريعية وحرية التعبير والتنظيم وتحرر القضاء من تدخل السلطتين التنفيذية والتشريعية عندهم والأوضاع لدينا.
يكفى القول فى هذا المجال إن سبب بعدنا عن الفهم الحقيقى لما يجرى فى العالم هو إعلامنا وحيد الصوت، والذى جعل موضع صحافتنا قرب ذيل القائمة فى التقرير الأخير لمنظمة مراسلون بلا حدود محتلة الموقع 161 من بين 180 دولة، تسبقنا فى هذا الصدد دولة بوروندى.