يتخبط الإسرائيليون بين الحماس لعملية برية واسعة طال انتظارها فى غزة، ومخاوف جديدة من جحيم ينتظر قوات الاحتلال إذا هى أقدمت على اقتحام القطاع، وكلما ضاقت وتعقدت المشكلة، دب الخلاف أكثر بين نتنياهو ومعارضيه الذين تتسع دائرتهم يوما وراء الآخر، وسط ضغوط هائلة من عائلات الجنود والمستوطنين الأسرى الذين باتوا كابوسا لرجل تل أبيب «الضعيف» الذى «لم يعد صالحا للحكم ولا لإدارة حرب» فى نظر جمهرة من الإسرائيليين.
ومع دخول العدوان أسبوعه الرابع، تكثف قوات الاحتلال غاراتها على غزة بشكل هستيرى، وخاصة لمحيط المستشفيات بما يتسبب فى سقوط مئات الشهداء والجرحى، وهو تعبير عن فشل محاولات الاجتياح البرى حتى الآن، على الرغم من استدعاء مئات ألوف الجنود الاحتياط واصطفاف آلاف المدرعات والدبابات وقاذفات الصواريخ على الحدود مع القطاع.
فلا يمكن تفسير إظلام غزة، وقطع خدمات الاتصالات عنها، وتكثيف الغارات عليها، بعيدا عن غياب خطة الاجتياح البرى، التى استدعت وصول مخططين عسكريين وقوات أمريكية للعمل فى الميدان، ما يعكس بجلاء مدى ضعف وهشاشة الجيش الإسرائيلى الذى راح قادته يتبادلون الاتهامات مع نتنياهو الذى يناور بتغريدات صبيانية على مواقع التواصل الاجتماعى يتهرب فيها من الاعتراف بفشله، أو تحمل مسئولية الهجوم الكاسح للمقاومة الفلسطينية فى السابع من أكتوبر.
يتحصن جنود الاحتلال خلف القذائف الصاروخية، ونيران المدافع التى تستهدف المدنيين فى غزة، لكنهم يعجزون عن خوض غمار الحرب وجها لوجه، وملاقاة خصومهم فى الميدان، بعد أن ولى زملاؤهم ظهورهم خوفا ورعبا من عناصر المقاومة فى السابع من أكتوبر، وكلما زادت هواجس قوات الاحتلال صبت جام غضبها على المدنيين العزل فى المستشفيات والشوارع بعد أن هدمت آلاف الوحدات السكنية فوق رءوس الأطفال والنساء وكبار السن.
منيت تل أبيب بهزيمة منكرة فى الجمعية العامة للأمم المتحدة التى اتخذت قرارا بأغلبية 120 عضوا يدعو إلى «هدنة إنسانية فورية دائمة ومستدامة تفضى إلى وقف الأعمال العدائية وتوفير السلع والخدمات الأساسية للمدنيين فى شتى أنحاء غزة فورا وبدون عوائق»، فماذا فعلت إسرائيل؟ استهانت بدول العالم وأمعنت فى العدوان وقتل المدنيين ومنع تدفق المساعدات الطبية والغذائية لأكثر من مليونى مدنى فلسطينى يواجهون الجوع والمرض وكارثة صحية مع وجود آلاف الجثث تحت أنقاض المنازل المدمرة.
السلوك الإجرامى الإسرائيلى بحق الفلسطينيين دفع المدعى العام للمحكمة الجنائية الدولية، كريم خان، إلى القول وهو يقف أمام معبر رفح البرى، إن «عرقلة إمدادات الإغاثة لسكان غزة قد تشكل جريمة بموجب اختصاص المحكمة». كريم خان قال أيضا خلال مؤتمر صحفى فى القاهرة إنه ينبغى ألا يكون هناك أى عائق أمام وصول إمدادات الإغاثة الإنسانية للمدنيين، وأن هناك حقوقا لهؤلاء «بموجب القانون الدولى الإنسانى»، لكن هل يمكن أن تضع المحكمة الجنائية الدولية قادة الاحتلال فى أقفاص الاتهام، وتجرهم إلى ساحتها؟ أشك، فنحن للأسف أمام سيرك منصوب والكل يسعى لتبرئة ذمته من دماء الأطفال والنساء فى غزة!!
صحيح هناك جهود تبذل، وخاصة من جانب مصر، للتوصل إلى هدنة إنسانية تضمن تدفق المساعدات الإغاثية بوتيرة أكبر، غير أن الواقع على الأرض حتى الآن أقل مما هو مطلوب، ويحتاج إلى المزيد من الضغوط الدولية على تل أبيب، لضمان وقف العدوان أولا، وفتح الطريق أمام مئات من شاحنات المساعدات التى تنتظر دورها فى الوصول البطىء إلى وجهتها للمحاصرين فى غزة.
تتجاهل إسرائيل كل الأصوات المطالبة بوقف عدوانها على غزة، وتتردد فى الاجتياح البرى خشية عواقبه الوخيمة، فتكثف نيرانها صوب المدنيين المحشورين بين فوهات المدافع من جهة، وخطر الموت جوعا من جهة أخرى، فى ظل جنون إسرائيلى قائم على الانتقام والرغبة فى سفك أكبر قدر من الدماء، تتلبس قادتها روح تستشعر خطر «الزوال من الوجود» وهى عقدة تاريخية ستبقى تطارد كل صهيونى جاء من بلدان بعيدة لسرقة أرض فلسطين.