مع صعود المحافظين الجدد فى مطلع الألفية للحكم فى واشنطن، والحديث المفتوح عن المسائل العقائدية على لسان كبار المسئولين الأمريكيين، وأشهرهم الرئيس الأمريكى الأسبق جورج بوش الابن، انتقلت مسائل إيمانية ومن أهمها عودة السيد المسيح من حيز التفاسير الدينية، إلى حيز الأوراق السياسية. واعتبرت بعض من النخب الغربية بأن هذه المسألة يمكن السعى لتحقيقها، ومن ثم شكل هذا المعتقد جزءا مهما فى صياغة الاستراتيجيات السياسية الموجهة إلى منطقة الشرق الأوسط، من أجل تهيئة الظروف لتحقيق النبوءة. وتلاقت هذه الرؤية مع رؤية اليمين الإسرائيلى، وإن كان أكثر وضوحا فى التعبير عنها.
ولنتذكر فى بداية هذا المقال بأن اهتمام الناس بمسألة عودة السيد المسيح وأحداث آخر الزمان لا تقتصر على زماننا هذا، وإنما تتشارك فيها عدة حقب زمنية، من أشهرها فترة الحروب الصليبية. وبالرغم من عدم تحقق هذه النبوءة حتى الآن، فإنها حافظت على مفعولها وبريقها. وعادة تستدعى الأمم هذه المسألة عندما تكون فى أزمة، أو فى حالة انكسار تستدعى ظهور البطل المخلص الذى بوسعه تحويل اتجاه الدفة من الهزيمة إلى الانتصار. وعاشت الفكرة وانتقلت بين الأجيال، واستعملها البعض لحشد المؤيدين، بالرغم من خطورتها، وذلك لأن أى مدعٍ بأن بوسعه العمل على عودة السيد المسيح، يغامر بأن ينكشف أمره مع مرور الوقت بدون أن تتحقق نبوءته.
• • •
يعتبر شبتاى تسفى المولود عام 1626 من أشهر هؤلاء المدعين. وهو حبر يهودى من أزمير فى شرق الأناضول بتركيا، درس التناخ والتلمود، والمعارف الباطنية، ومنهج القبالاه (الصوفية اليهودية). وبحسب اعتقاده لم يظهر السيد المسيح من الأساس، واهتدى من دراسته بأن ظهور المسيح سيكون عام 1648. فخرج على أتباعه وأعلن أنه هو المسيح، وذاع صيته وانتشر أمره، بعدما تنقل لأعوام بين البلدان لاسيما مصر، وفلسطين، واليونان، وخصوصا فى سالونيك حتى انتبهت إليه السلطات العثمانية. وألقى القبض عليه عام 1666. ولكنه نجى أثناء المحاكمة بعدما خشى من حكم الإعدام، حيث أعلن إسلامه بين يدى السلطان محمد الرابع. وتحول أتباعه جميعا إلى الإسلام، وأطلق عليهم يهود الدونمة، وهى كلمة تركية تعنى العائد أو المرتد. ولقد حافظ الدونمة على اعتقادهم الباطنى لفترة 250 سنة، وكانت سالونيك وقولة أهم مدنهم فى تركيا حتى نجحوا فى تأجيج ثورة تركيا الفتاة عام 1908 التى عزلت السلطان العثمانى عبد الحميد الثانى، وأتت بحكومة الاتحاد والترقى. وبعد إنشاء دولة إسرائيل هاجر إليها يهود الدونمة.
واعتبرت العديد من دوائر اليمين المسيحى بأن إنشاء دولة إسرائيل خطوة مهمة فى مسألة عودة السيد المسيح، وذلك على تباين الاعتقاد بينهم وبين اليهود حول ظهور السيد المسيح، بين كون ذلك ظهور للمرة الأولى أو «عودة» ثانية بحسب المعتقد المسيحى. إضافة إلى ذلك، فإن اليمين اليهودى يرى خطوة تالية لأزمة ظهور المسيح، وهى إعادة بناء الهيكل فى موضوع المسجد الأقصى المبارك. ولطالما اقتربت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة من هذا الهدف تدريجيا، عن طريق اقتسام السيطرة على المسجد زمانيا ومكانيا، بحيث يخضع الدخول إليه والصلاة فيه للسلطات الإسرائيلية. كما تجرأت عليه الحكومات اليمينية لاسيما الحالية، والتى تريد الآن ذبح بقرات حمر داخل المسجد الأقصى تمهيدا لبناء الهيكل. وكل ذلك يزكى الإحساس لدى جمهور اليمين الإسرائيلى بأن مسألة ظهور المسيح وشيكة.
وعلى النقيض انتقد العديد من ساسة إسرائيل سلوك الحكومة الإسرائيلية الحالية، ومنهم إيهود أولمرت، وإيهود باراك، وموشيه يعالون، واتهموا نتنياهو رئيس الوزراء الحالى بأنه خاضع للوزيرين إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش، اللذين يدفعانه لاختيار التصعيد، لتهيئة الظروف لظهور المسيح المخلص.
• • •
وتعود فكرة اليمين الإسرائيلى عن المسيح إلى موسى بن ميمون أهم حاخامات العصور الوسطى، الذى صاغ قائمة المبادئ الثلاثة عشر المعبرة عن الإيمان اليهودى، ومن ضمنها ظهور المسيح حيث كتب «الملك الممسوح مقدر له إقامة واستعادة مملكة داود وإعادة أمجادها الغابرة، فى سيادتها المستقلة وفى سلطتها القائمة بذاتها، وسوف يبنى الهيكل أو المعبد فى أورشليم (القدس) وسوف يعيد جمع شمل اليهود المشتتين فى العالم معا، وسوف يعاد تطبيق كل الشرائع فى أيامه كما كانت من قبل، وسوف تقدم الذبائح والأضاحى وتحفظ أيام السبت وأعياد اليوبيل طبقا لجميع سلوكياته وأخلاقياته المدونة فى التوراة، وكل من لا يؤمن به أو لا ينتظر مجيئه، لن يكون فقط يتحدى ويقاوم ما قاله الأنبياء، بل سيكون رافضا للتوراة ولموسى معلما، فالتوراة تشهد له فى سفر التثنية». ولكن الصهيونية، وهى حركة سياسة يهودية، لم تنتظر ذلك، وأقامت بالفعل الدولة وجمعت اليهود من الشتات. وكانت هذه إحدى المعضلات التى واجهت تيودور هيرتزل لدى تأسيسه للمنظمة الصهيونية عام 1897، حيث اعتبر قاسم كبير من اليهود بأن مسألة جمع اليهود من الشتات تخضع للمسيح وليس للمنظمة الصهيونية. وأدى الاختلاف حول هذه النقطة إلى انقسام ما زال ساريا فى المجتمعات اليهودية.
• • •
نلاحظ هنا أن عودة أو ظهور المسيح هى تعبير عن أمة فى أزمة، لأنها أمة تصارع الآخرين، وتعتبر نفسها على الحق بينما الآخرين على باطل، ولكن الآخرين يتكالبون عليها، ولذلك تمر فى وسط تحديات هائلة، وهى تبحث عن المخلص الذى لا يأتى كنبى، وإنما كملك يقود شعبه نحو النصر الحاسم. ولأنه ملك، فبالنسبة لليهود سيخرج من نسل داود، وذلك لأن مسألة الحكم، أو النبوءة، هى مسألة وراثية يختص بها النسل الذى يعتقد بأن الله «اختاره» من بين بنى آدم أجمعين. وهذه تفصيلة تقودنا إلى تفريعة أخرى مشابهة؛ حيث يتشابه هذا الطرح مع فكرة مركزية فى المعتقد الشيعى، الذى يرى الإمامة عبارة عن سر يتوارثه نسل الإمام الحسين رضوان الله عليه. ومن هذا النسل يخرج المهدى المنتظر، الذى سيقوم بنفس عمل المسيح، بمعنى أنه سيقود الأمة للنصر على أعدائها بعدما تكالبت عليها الأمم. هذا ولأهل السنة والجماعة رأى فى المهدى، نعرض له فى مقال لاحق.
ونعود إلى سياق المقال حيث المسألة الحاسمة هنا تدور حول سؤالين، الأول، هل بوسع الناس فعل شىء لاستعجال السماء فى مسألة ظهور أو عودة السيد المسيح؟ وهنا نترك الإجابة للتاريخ. فكل الأحداث السابقة التى شهدت سعيا بشريا لتحقيق النبوءة لم تسفر عن شىء، فأمر السماء ليس من اختصاص أهل الأرض. والسؤال الثانى، لماذا تسعى أشد الدول علمانية، تفصل الدين عن الدولة، مثل الولايات المتحدة وإسرائيل، لتحقيق نبوءة دينية والتسريع من عودة المسيح، بينما نحن نعيش بالفعل فى زمن سطوة القوة للولايات المتحدة، وعلو إسرائيل؟ ألا يكفى إسرائيل من العلو فى الأرض بأنها الدولة الوحيدة فى العالم التى تضع نفسها فوق محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية؟ وماذا سيضيف لها المسيح؟ هل تبحث إسرائيل عن القيادة الروحية للعالم؟