تناول معرض العمارة الذى يقام كل ثلاث سنوات فى أوسلو فى عام ٢٠١٩ قضية «النمو المفرط»، وهو يقصد بالطبع ما يمر به العالم ككل، والغربى منه والصين بصفة خاصة.
ولهذا كان التركيز على التحدى الذى يفرضه ذلك فى إطار الحاجة لمدن مستدامة لمواجهة هذا الإفراط والبحث. وتساءل منظمو المعرض عما إذا كان هناك بدائل يمكن تصورها للعمارة فى إطار اقتصاد ثقافى جديد، وعن ماهية تلك العمارة التى يمكن أن تنتج عندما تتوقف عن كونها إحدى أدوات التراكم أو الاكتناز المالى؟ ما هى نوعية الفضاءات والمساحات التى يمكن إيجادها والتى تبنى فى إطار الإنتاج المستدام؟
توجه تلك التساؤلات فى إطار الحالة التى تمر بها الدول المتقدمة أو النامية بقوة مثل الصين وغيرها، ولكن مالنا نحن بذلك؟ هم من أفسدوا كوكب الأرض وهم الذين يجب أن يتحملوا تبعات إصلاحه وهذه فى الحقيقة حجة ذات منطق واضح وتتمسك بها الدول النامية ومنها مصر. وتصر تلك الدول على أن لها الحق أيضا فى التنمية والتقدم مثل الدول الغربية وهذا ما لا خلاف عليه. ولكن هل طريق الحياة الجيدة لا بد أن يمر بهذا النمط المسرف فى الاستهلاك والذى تتبعه الدول المتقدمة؟ وهل سيتحمل كوكبنا المزيد من إنشاء المدن الجديدة والطرق والكبارى التى تدعم المسار نحو النمو المفرط؟ أم أننا ربما قبل الوصول لما نأمل قد نواجه بتداعيات ورد فعل الطبيعة بالصورة التى لا نستطيع مقاومتها.
***
فى جوهر التساؤلات عن النمو المفرط والمسارات المؤدية إليه إحدى القضايا التى أجدها تستدعى اهتماما كبيرا، ربما لا تلقاه، هى ما يتناول الموقف من «استخراج» المواد والمعادن المختلفة من باطن الأرض والذى بطبيعته يحتفظ منها بمقادير محدودة ومتلاشية حتى لو بدت للوهلة الأولى كبيرة فى وقتنا الحالى. هناك تحدٍ كبير وربما إشكالية فى اعتمادنا فى مصر والعالم أيضا على أنشطة جوهرها الاستخراج، وكما كتب كاى دون «هناك جزء من العالم يتداعى لكى نبنى جزءا آخر». كانت رغبتنا المستمرة فى البناء تستوجب دائما الحفر أعمق لاستخراج البترول أو الغاز الطبيعى للوقود أو لتوفير الرمال والحجر وحتى الماء. البناء هنا يحمل فى طياته تدمير جزء ما من الطبيعة. واستنزاف الموارد المحددة للطبيعة كما يظهر بصورة جلية فى عمليات التعدين يهدد مستقبل البشرية.
ولأن الاستخراج يعتمد على ما هو محدود ولا يتجدد بطبيعته فيمكن بالتالى تصنيفه على نشاط غير مستدام. والإشكالية الكبرى هنا أن تلك المواد والمعادن المختلفة فى باطن الأرض تشكل جزءا مهما من التوازن الهش الذى يحفظ الحياة على الأرض والتى نريد لها جميعا الاستمرار ليس فقط حتى يتمكن أولادنا وأحفادنا من الحياة الكريمة ولكن حتى نتمكن نحن أيضا من ذلك. ينتج عن هذا الفهم ببساطة أننا يجب أن نبتعد عن الأنشطة الاقتصادية القائمة على مواد مستخرجة بكثافة. ربما يبدو ذلك غير قابل للتحقيق ولكن هذا المفهوم هو فى جوهر ما وقعت عليه مصر عندما التزمت مصر بأهداف التنمية المستدامة التى أقرتها الأمم المتحدة فى عام 2015 وقامت وزارة التخطيط المصرية بعمل رؤية للتنمية لمصر بحلول عام 2030 تهتدى بالأهداف السبعة عشر للخطة الأممية.
ولكن هل هناك بديل لهذا «الاستخراج» غير المستدام؟ فى الحقيقة وخلال السنوات القليلة الماضية بدأت تتبلور نظريات وأفكار لم تبقَ فى طورها النظرى ولكنها بدأت فى التحول لأطر للعمل الجاد لبدء تحول كبير نحو اقتصاد متجدد ومزدهر. أحيانا يطلق عليه الاقتصاد الدوار. ويدعم هذا الاقتصاد أنشطة أساسية قائمة على الصيانة تطيل عمر الأدوات التى نستخدمها فى حياتنا اليومية وتعيد تدوير، ربما بتصميم متطور، ما لا يصبح صالحا للاستخدام. وبينما الاستخراج يحمل وعدا بمستقبل لا نرغب فيه إلا أن التجدد والازدهار أو الاقتصاد الدوار يحمل على النقيض وعدا بحياة أفضل للجميع بدون التعدى على الأرض الكريمة التى نعيش عليها. هذا التحول هو كما يظهر الآن ليس ببساطة أننا فى انتظار ابتكارات عديدة ولكننا بالإضافة لتلك الابتكارات التقنية نحتاج أيضا ابتكارات اجتماعية ونحتاج إلى نظام للإدارة وإطلاق السياسات كما نحتاج إلى إقناع وتحفيز المواطنين ليس بطريقة الأخ الأكبر ولكن عن طريق تعليم يدعم بناء شخصيات مستقلة وناقدة.
***
أحد الأخبار السارة فى بداية هذا العام كانت منح المعماريين «آن لاكاتون» و«جان فيليب فاسل» أكبر جائزة معمارية فى العالم وهى جائزة «بريتسكر» واللافت فى أعمالهما فى الحقيقة أنهما لا يبنيان مبانٍ جديدة مثل المعماريين الآخرين وخاصة أولئك الذين يستأثرون فى الغالب الجوائز الكبرى المعمارية وتحتفى بهم الصحافة ووسائل الإعلام فى أنحاء العالم. ما يفعله هذان المعماريان ببساطة أنهما يعدلان من المبانى القائمة والتى تمثل بالنسبة لهم موردا هاما لا يمكن الاستغناء عنه ويقومان بعمل بعض الإضافات عليه والتى تحوله إلى مكان يستطيع أن يدعم الحياة بصورة أفضل. وهو فى ذلك بالطبع يحافظان على البيئة الطبيعية ويتجنبان أضرار الهدم والبناء الجديد وما يحتاجه من مواد يضر استخراجها وتطويرها بالبيئة فى الغالب. كان هذا المنح تحولا جديرا بالاحتفاء به لدى بعض نقاد العمارة والمشتغلين بها وربما يكون بداية لمراجعة ذاتية وإعادة تفكير فى التنمية العمرانية والعمارة القائمة على استهلاك مواردنا الطبيعية المحدودة بشراهة لا تستقيم مع متطلبات المواجهة للكوارث الطبيعية التى تهدد الحياة على الأرض.
كما أظهرت الباحثة البيئية الكبيرة «إيلين بينيت» فى بحث نشر لها منذ عدة أسابيع كيف أنه ليس هناك مسار واحد لتحقيق التحول المنشود نحو عالم مزدهر ومستدام يجد فيه الجميع احتياجاتهم. وأنه ربما يمكن للأقاليم المختلفة أن يكون لها طرق مختلفة تعتمد بالطبع على ظروفها المحلية وقدراتها ولكنها يمكن أن تؤدى فى النهاية لنفس الهدف. وعلينا أن نجد طريقنا الخاص بنا فى مصر وإقليمنا المحيط.