«أحاديث الجوي» في اقتفاء الشغف بالقاهرة! - إيهاب الملاح - بوابة الشروق
الأحد 15 ديسمبر 2024 5:48 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

«أحاديث الجوي» في اقتفاء الشغف بالقاهرة!

نشر فى : السبت 9 مارس 2024 - 8:25 م | آخر تحديث : السبت 9 مارس 2024 - 8:25 م
ــ 1 ــ
قبل بضع سنوات كتبت ــ هنا فى (الشروق) ــ عن مبادرات «لغوية» و«تراثية» و«تاريخية» لبعض أبناء جيلى كل فى مجاله. لا أخفى إعجابى أبدا ولا تقديرى ولا متابعتى لعدد منهم (من مواليد أواخر السبعينيات، ومطالع الثمانينيات من القرن الماضى، منهم حسام إبراهيم، وميشيل حنا، ومحمود عبدالرازق جمعة، ومحمد الشماع، وغيرهم) أظنهم وأحسبهم من بين الأروع والأكثر امتصاصا لكل حرف قرأوه ووعيا بمفردات الثقافة ومراحل التكوين التى مروا بها؛ وحققوا على مدى السنوات العشر الماضية نجاحات ملموسة، وصار لهم جمهورهم ومتابعوهم سواء لنشاطهم، عبر وسائل التواصل الاجتماعى، أو من خلال أعمالهم المنشورة فى صورة كتب أو فيديوهات.. إلخ.
من بين هؤلاء أيضا الباحث التاريخى المرموق حامد محمد حامد الذى نشر كتابه الأول فى 2007 بعنوان «حواديت مصرية»، ثم نشر كتابه الثانى «خريدة القاهرة ـ شىء من سيرة الأماكن والأشخاص» عن دار الرواق فى 2019، وقد صار ما يكتبه من حكايات وتنقيبات تاريخية محل عناية واهتمام ومتابعة كبيرة من محبى التاريخ عموما، وتاريخ القاهرة بصورة أخص.
ــ 2 ــ
وها هو يطل علينا بكتابه الجديد الممتع «أحاديث الجوى ـ فى اقتفاء أثر القاهرة» (صدر عن دار الرواق فى يناير 2024) يستكمل فيها اكتشافاته المبهرة، وحكاياته الجذابة، ومساحات من الأماكن والقصص المنسية والدراما الإنسانية ربما لم يلتفت إليها أحد قبل أن يصوغها حامد ويقدمها لقرائه فى هذا الثوب القشيب (ذلك التعبير التراثى الذى أحبه صراحة!) حامد محمد حامد درس الصيدلة، وامتهنها، لكنه كان من الذين ضربوا منذ الصغر بمحبة الأماكن واكتشاف أسرارها، تشرب حب التاريخ «الحى»، والشغوف بمطالعة مصادر تاريخ مصر الإسلامية ومجاميعها الكبرى التى تركها لنا كبار مؤرخيها (ابن تغرى بردى، والمقريزى، والسيوطى، والسخاوى، وابن إياس.. وغيرهم) وصار «الهاوى» الذى يروى بصدق وحرارة حكايات و«خرائد» (الخريدة هى اللؤلؤة الثمينة الفريدة) من تاريخ مصر فى العصور الإسلامية، أكسباه جمهورا عريضا وواسعا يتابع ما يكتب بشغف.
وقد حقق حامد المعادلة الصعبة فى ظل الهوسة والفوضى التى تضربنا من كل جانب (باختلاط الغث وهو الأغزر بالثمين وهو الأندر) ذلك أنه قدم مادة تاريخية «أصيلة» لا تفتقر إلى التوثيق والإحالة إلى المصادر، وبين سلاسة العرض ومتعته، وصياغة هى أقرب ما يكون إلى صياغة الأديب المحترف والراوى الأصيل!
ــ 3 ــ
يثبت صاحب «أحاديث الجوى» ــ عبر فصول كتابه الـ 26 ــ أن المشكلة الحقيقية فى مطالعة التاريخ والإقبال عليه والشغف به ليست فى أن الناس لا تقرأ أو أنها منصرفة عن ذلك، كما يحلو للكسالى أن يرددوا، أبدا، إنما المشكلة فى ماذا يقدم لهم ليقرأوه، أولا، وكيف يقدم لهم وبأى طريقة، ثانيا!
يلعب حامد الآن دورا رائعا فى هذا الصدد، يكتب مادته التاريخية بلغة جديدة وعرض مبتكر وتوظيف ممتاز للوسائط الحديثة فى عرض وتيسير المادة التاريخية، أشبه بما كان يفعله بدرجة ما المرحوم جمال الغيطانى (أحد الأسباب المباشر فى افتتان بعض جيلى ــ وأنا منهم ــ بسيرة وتاريخ القاهرة عبر العصور) أو بصورة أخرى بما كان يكتبه ويقدمه المرحوم جمال بدوى فى مساحاته الجماهيرية الذائعة فى الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضى.
لكن هناك مساحات للاختلاف أيضا بدون شك! فعناية حامد تنصب بالأساس على «روح المكان» الذى يعتقد أنه ينادى أصحابه، ويناجيهم، ويهمس لهم ويوحى إليهم بسر مستغلق أو بإشارة خفية على متلقيها أن يبدأ فورا فى ترجمتها والسعى خلفها دون تردد! يحتذى حامد خطى شيخه ــ وشيخنا ــ تقى الدين المقريزى الذى أضحى حضوره «الآن» باهرا وقويا، يقول: «إن هذا الكتاب يستلهم روح الخطط، أو هذا ما أتمناه على الأقل!» هكذا يكتب حامد فى مقدمته لـ «الخريدة» وأظن أن العبارة تنطبق حرفيا على «أحاديث الجوى» أيضا. و«الخطط» هى نوع من الكتابة يعنى أساسا بالجغرافيا التاريخية، وببعض التجاوز يمكن أن نقول: إن موضوع الخطط الأساسى هو «تاريخ الأماكن»..
ــ 4 ــ
ربما كان أبرز ما يميز حامد مع ثلة من أبناء جيله من المشتغلين بالبحث التاريخى، هو الهوى بمعنى العشق الجارف، بمعنى الانغماس بكامل الإرادة فى غمار هذا المحيط الذى لا قرار له ولا ضفاف ولا قوارب نجاة!
ورغم ذلك فمع كل «لؤلؤة» يقتنصها من غمار هذا المحيط، يثبت أنه غواص ماهر وخبير ومثقف ولديه الحس والذائقة والقدرة الفائقة على التوغل فى المتون القديمة والمصادر الأصيلة، قد يستوقفه سطر هنا أو إشارة هناك، ثم يراوح بين الأثر الباقى وبين النثار المتاح، ثم يلملم من هذا النثار وهذه الشذرات «حكاية»، حكاية كاملة تقوم على «حدث» أو «شخصية» أو «موقف» عابر ارتبط بولى صالح أو شيخ فقيه.. إلخ، يتتبع تفاصيله ويلملم خيوطه، ثم يصوغ ذلك كله فيما لا يتجاوز الأربع أو الخمس صفحات فقط!
وهكذا، وعلى مهل شديد وببطء ارتشاف القهوة والتلذذ بها، أخذ حامد يستخرج المخفى والمنسى ويصوغ حكاياته، ألح صاحب هذه السطور إلحاحا شديدا استمر ما يقرب من الأعوام الثلاثة لإخراج مجموعة حكاياته التاريخية الأولى فصدرت بعنوان (خريدة القاهرة)، ثم ألح عليه مرة أخرى، فكانت الثمرة الجميلة كتابنا هذا (أحاديث الجوى)، الذى يقع فى أقل من 200 صفحة من القطع الأقل من المتوسط، ويضم 26 حكاية بحث عنها وجمع خيوطها من بين عشرات المجلدات والمصادر يجمعها كلها أنها حكايات ارتبطت بأماكن اندثرت! أى إنها لم تعد قائمة.. اختفت للأبد! لكن بقى منها ما يدل عليها وعلى أثرها، بقى منها حكاية بحث عنها صاحب الكتاب ورواها ليخلد المكان ويخلد أصحاب الحكاية..
(وللحديث بقية)