الظواهر الإنسانية مثل الهجرة والحروب والثورات ونظم الحكم ظواهر متعددة الأبعاد وكثيرة الزوايا يصعب اختزالها فى بعد واحد أو تفسيرها من زاوية واحدة، ومن ثم لا تجوز قراءتها بالتركيز على واحد فقط من أبعادها، فسوف يبعدنا ذلك عن الفهم الصحيح لها، وإذا كان ذلك ينطبق على الرأى العام، ويؤدى فى العادة إلى سجالات لا تنتهى بين أنصار بعد لها، وأنصار الأبعاد الأخرى، فإن القراءة الصحيحة لهذه الظواهر هى فى أشد الأهمية لصانع السياسة، فتركيزه على بُعد واحد لها، أو عدم فهمه لما جرى فيها أو بشأنها يمكن أن يؤدى به إلى اتباع سياسات تجعله يكرر أخطاء السابقين عليه، ومن ثم يدفع ثمن هذه القراءة غير الصحيحة أو الجزئية لها.
وقد انشغلنا فى مصر بإعادة قراءة بعض أحداث تاريخنا المعاصر خلال الأسبوعين الماضيين، وكما هى العادة فقراءاتنا للتاريخ هى قراءة موسمية، ترتبط بمناسبات محددة. حلت فى الأسبوعين الماضيين ذكريات عديدة، منها رحيل الرئيس جمال عبدالناصر فى ٢٨ سبتمبر، ومنها ذكرى حرب أكتوبر واغتيال الرئيس السادات فى ٦ أكتوبر، وقد أثار ذلك كتابات عديدة، تناولت ليس فقط هذه الذكريات، ولكنها امتدت إلى تقييم حرب أكتوبر وعهد الرئيس السادات وما ارتبط بالإشارة إلى كونه بطل الحرب وبطل السلام، بل إن عهد حسنى تعرض بدوره للتقويم، من جانب الرئيس عبدالفتاح السياسى نفسه عندما قال إن ثورة يناير التى أطاحت بحكمه كانت علاجا خاطئا لتشخيص خاطئ.
وقد تفاوت حظ هذه الأحداث كلها من الاهتمام، وإن كان الغالب على معظم الكتابات التى تناولتها هو هذه الرؤية الأحادية التى لا ترى فى أى ظاهرة سوى البعد الذى يروق لمن يعنى بالتعليق عليها، دون أن يبذل جهدا فى استعراض أبعادها الأخرى، أو توضيح جوانب لها تغيب عن الأذهان، أو حتى بذكر حجج من يرون لها وجها آخر، ولا أظن أن ذلك يخدم صانع السياسة فى مصر فى الحاضر أو المستقبل، فمن الضرورى له أن يحيط بجميع أبعاد هذه الظواهر حتى يستند صنعه للسياسات الداخلية أو الخارجية إلى الدروس الصحيحة المستفادة من هذه الرؤية الأكثر إلماما بتعدد جوانبها. وأضرب مثلا يؤكد ارتباط الرؤية الصحيحة للأحداث الكبرى فى تاريخنا المعاصر بعملية صنع السياسة. الرئيس السادات مثلا رأى فى الانتفاضة الشعبية احتجاجا على قرارات الحكومة برفع أسعار السلع الأساسية فى ١٧ يناير ١٩٧٧ بنسب كبير تكاد تبلغ الضعف فى معظم الأحيان، استجابة لمطالب صندوق النقد الدولى، وهى الاحتجاجات التى عمت البلاد من شمالها فى الإسكندرية إلى جنوبها فى مصر فى ١٨ و١٩ يناير «انتفاضة حرامية». ولكن لم تكن تلك رؤية الحكومات التى تعاقبت على مصر منذ استقالة حكومة ممدوح سالم الذى اتخذ هذه القرارات، وحتى حكومة عاطف صدقى التى تولت السلطة فى ١٩٨٧. فرغم أن الرئيس السادات قد أمر بإلقاء القبض على من كان يعتبرهم «حرامية» وهم قيادات عمالية وطلابية وقيادات حزبية يسارية، إلا أن أيا من هذه الحكومات وحتى مايو ١٩٩١ لم تلجأ إلى إبرام اتفاق آخر بنفس الشروط مع صندوق النقد الدولى. وعندما أبرمت اتفاقين آخرين مع الصندوق، واحد فى ١٩٨٧ وآخر فى سنة ١٩٩١، كانت شروطهما أخف بكثير من شروط الاتفاق المزمع فى يناير ١٩٧٧، وفى ظل أوضاع أفضل بكثير لمصر مثل إسقاط نصف مديونيتها الخارجية وكل ديونها العسكرية وديونها لدول الخليج. أيا كان رأينا فى حزمة السياسات التى يوصى بها صندوق النقد الدولى، فلعلنا نتفق على أن رؤية هذه الحكومات لانتفاضة يناير ١٩٧٧ كانت رؤية صحيحة، فحتى لو كانت ترى فيما يدعو له الصندوق إصلاحا لاقتصاد مصر، إلا أن الكلفة الاجتماعية والسياسية لهذه الحزمة لابد وأن تؤخذ فى الاعتبار. ولذلك فإن تطبيق الحزمة الجديدة التى وافقت عليها حكومة الدكتور عاطف صدقى فى سنة ١٩٩١ لم يقترن باحتجاجات شعبية واسعة وتمكنت الحكومة من تطبيق معظم بنودها.
ويدعونا ذلك الدرس المهم إلى أن يتسع صدرنا لقراءات متعددة الأبعاد والزوايا للأحداث الكبرى فى تاريخنا القريب على أمل أن يسترشد بها صانع السياسة، أن من لا يجيدون قراءة دروس التاريخ، محكوم عليهم بأن يكرروا أخطاء من سبقوهم ولا ينبغى أن يلوموا إلا أنفسهم إذا ما اكتووا بنيران تبعات هذه الأخطاء. وسيعطى هذا المقال أمثلة مختصرة لكيفية القراءة متعددة الأبعاد والزوايا لبعض هذه الأحداث.
●●●
والمثل الأول هو ذكرى رحيل عبدالناصر والتى لم تلق اهتماما كافيا فى تعليقات الصحف، ربما لأن التقاليد المصرية لا تحبذ إلا ذكر محاسن الموتى، ومع ذلك رأى أحد الكتاب والذى يصر دائما على أن كل عهد عبدالناصر كان كارثة كبرى حلت بمصر، إلا أنه اكتشف ميزة مهمة فى عبدالناصر، وهى أنه اختار قبل رحيله نائبا أول له وهو أنور السادات، ومن ثم أتاح ذلك لمصر أن يترأسها أنور السادات الذى قادها إلى نصر أكتوبر، وبذلك اعتبر هذا الكاتب أن عبدالناصر كان له دور غير مباشر فى نصر أكتوبر. طبعا يمكن اعتبار ذلك نوعا من المزاح من جانب الكاتب الذى لا يكن أى ودٍّ لنظام عبدالناصر، ولكن الرؤية متعددة الأبعاد لدور عبدالناصر فى تاريخ مصر هى التى تعترف بحرصه على الاستقلال الوطنى، وباهتمامه بتحقيق العدالة الاجتماعية، ولكنها رؤية لا تعفيه من تهميشه لضرورة توفير الحقوق المدنية والسياسية للمواطنين، وميله لتعيين من هم أهل لثقته ولكن من ثبت أيضا افتقادهم للكفاءة وفى مقدمتهم من أبقاه قائدا فعليا للقوات المسلحة وصار نائبا أول له، وهو ما جر على مصر ثلاث هزائم كبرى منها تحطيم سلاح الجو فى أكتوبر ١٩٥٦، وانفصال سوريا فى سبتمبر ١٩٦١، ثم هزيمة مصر العسكرية فى يونيو ١٩٦٧، ولا يكفى اعتراف جمال عبدالناصر ببعض هذه الأخطاء بعد حرب يونيو ١٩٦٧ لإعفائه من مسئوليته عنها.
والمثل الثانى لهذه القراءة الأحادية هو كيفية تعرض الإعلام منذ سنوات لإنجاز مصر الكبير فى حرب أكتوبر. كانت بكل تأكيد إنجازا تاريخيا لشعب وجيش مصر فى مواجهة إسرائيل. ويستحق القائمون على التخطيط لهذه الحرب كل التقدير لكفاءتهم المهنية وتكوينهم العلمى وقدرتهم على العمل بروح الفريق وخيالهم المبدع فى توقيت زمن الحرب وابتداع سبل اقتحام خط بارليف. وحسنا إن استطاعت القوات المسلحة المصرية التعلم من بعض دروس هذه الحرب مثل كيفية تطوير الهجوم وإحكام التنسيق بين فروع الجيوش المحاربة وتوخى أن توجد ثغرة بينها يمكن للعدو أن يستفيد منها. ولكن الرؤية الأحادية لهذه الحرب تغفل أنها لم تكن حربا مصرية فقط ولكنها كانت حربا عربية شاركت فيها وجرت بالتنسيق مع سوريا وساهمت فيها قوات من دول عربية أخرى حتى وعلى نحو رمزى، كما أن الدول العربية المنتجة والمصدرة للنفط شاركت فيها ليس فقط بالدعم المالى الذى قدمته لمصر بعد يونيو ١٩٦٧، ولكن بحظر تصدير النفط للدول التى ساندت العدوان بما فيها الولايات المتحدة الأمريكية. كذلك يحسب إنجاز القوات المسلحة المصرية فى حرب أكتوبر لشجاعة وبسالة المقاتلين المصريين، ولكن ألم يكن هناك دور للسلاح السوفييتى الذى حاربت به هذه القوات، وخصوصا صواريخ سام ٦ المضادة للطائرات وأنظمة الدفاع الجوى الأخرى والتى حمت القوات المصرية العابرة للقنال من ضربات الطيران الإسرائيلى فضلا عن طائرات ميج ٢١ وقاذفة توبوليف ومقاتلات سوخوى التى أسقطت مئات من طائراته، وغيرها من الأنظمة الدفاعية المتقدمة فضلا عما أبدعه المهندسون المصريون.
وأخيرا لقد كانت إحدى الخطوات الأولى فى هذه الحرب هى الغارات المصرية على القوات الإسرائيلية فى شرق القناة. طبعا كانت الضربة الجوية هى حصيلة العمل الجماعى لسلاح الجو المصرى، ولكن ألا يستحق قائد هذا السلاح فى ذلك الوقت حسنى مبارك أن يذكر اسمه مقترنا بهذا الإنجاز، حتى وإن كانت لكثير منا ومنهم كاتب هذا السطور انتقادات حادة لأسلوب حكمه خصوصا فى عقده الأخير. فإذا كانت حرب أكتوبر حربا عربية، فما الذى جعل نهايتها السياسية وهى تسوية منفردة بين مصر وإسرائيل لا ترقى لتوقعات العرب من هذه الحرب؟ وما الذى جعل خبراء وزارة الخارجية المشهود لهم بالكفاءة والذين صحبوا السادات فى مفاوضات كامب دافيد فى سبتمبر ١٩٧٨ وما سبق إبرام المعاهدة المصرية الإسرائيلية فى ٢٦ مارس ١٩٧٩ يقاطعون حفل التوقيع على المعاهدة فى البيت الأبيض؟
●●●
والمثل الثالث هو القراءة السائدة لثورة يناير فى الإعلام المصرى على أنها مؤامرة خارجية دبرتها الولايات المتحدة، وأنها حلقة من حلقات زرع الفوضى فى الوطن العربى. لا يقدم القائلون بهذه الرؤية أى دليل جاد على صحة ما يقولون. لا يكفيهم أن التأييد الأمريكى لثورة يناير جاء متأخرا، رغم ذلك كله خرج أحد أعضاء المجلس ليعلن بيانا أذاعه التليفزيون متحدثا باسم المجلس والقوات المسلحة رافعا يده بالتحية لثورة الشعب المصرى العظيم. رغم هذا كله تتكرر رواية «مؤامرة يناير» و«عملية يناير» على صفحات الجرائد المصرية وعلى قنوات التليفزيون. السؤال المهم هل ينكر أحد زواج المال بالسلطة فى أواخر عهد مبارك؟ هل ينكر أحد الدور الذى كان يقوم به جمال مبارك رئيسا للجنة السياسات بالحزب الوطنى الديمقراطى ويحاسب بهذه الصفة رئيس الوزراء والوزراء رغم أنه لا توجد له صفة رسمية بالدولة؟ ألم يذهب جمال مبارك للقاء الرئيس الأمريكى جورج بوش فى البيت الأبيض لقاء رسميا رغم أنه لم تكن له صفة رسمية؟ حتى ولو لم يكن هناك مخطط لتوريث السلطة لجمال مبارك بعد انتهاء المدة الخامسة لأبيه ألم يكن هو الحاكم الفعلى للبلاد؟ وهل تليق هذه الأوضاع بمصر؟ وهل ينكر أحد تردى الخدمات العامة وفى مقدمتها التعليم والصحة والمواصلات فى عهد مبارك والتى ندفع ثمنها حتى اليوم؟ وهل كان هناك أسلوب آخر لتغيير هذه الأوضاع سوى بالثورة عليها بعد أن أغلقت انتخابات مجلس الشعب الأخيرة فى ظل مبارك وقبل شهور من ثورة يناير أى فرصة لإمكانية أن يكون هناك تغيير سلمى فى مصر؟
طبعا لم يعرف العالم ثورة يعقبها مباشرة استقرار الأوضاع الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، ولذلك فعلى الذين يلومون الثورات أن يقولوا لنا ما هو أسلوب التغيير الذى يرونه عندما يكون المستفيدون من أوضاع الفساد مستغرقين فيه ومصرّين على البقاء فى السلطة رغم أنف الغالبية الساحقة من المواطنين؟
وليت صانعى السياسة فى مصر يجدون إطارا يستمعون فيه لرؤى متعددة الأبعاد والزوايا للأحداث الكبرى فى تاريخنا القريب، لعلهم يجدون فى ذلك نفعا لهم وللوطن أيضا حتى لا نكرر أخطاء السابقين.