عندما أدلى مندوب مصر الدائم فى الأمم المتحدة بصوته مؤيدا مشروع القرار الفرنسى الإسبانى الذى أيدته الدول الغربية ضمن إحدى عشرة دولة عضو بمجلس الأمن، وهو المشروع الذى سقط بسبب استعمال المندوب الروسى حق الاعتراض، ثم أيد بعد ذلك المشروع المضاد الذى قدمه المندوب الروسى والذى لم يحصل سوى على أربعة أصوات، تعجب مندوبا السعودية وقطر، فكيف لمصر أن تصوت مؤيدة لمشروع وللمشروع المضاد فى نفس الوقت؟ وفسرت الحكومة المصرية هذا النمط من التصويب بأن كلا المشروعين يتفقان مع الموقف المصرى.
لاشك أن تلك حالة نادرة فى مجلس الأمن أن يصوت مندوب دولة، مع مشروع قرار ومع مشروع القرار المضاد له، سواء كان هذا المندوب من الدول أصحاب المقاعد الخمسة الدائمة أو من الدول العشر الأخرى التى يجرى انتخابها من الجمعية العامة مرة كل سنتين، ولكن تصويت مندوب مصر عكس فى الحقيقة التعقد غير المسبوق للأزمة السورية، والتى تجعل بعض الدول تتخذ مواقف تبدو متناقضة قى ذات الوقت، أو تتبدل مواقفها من حين إلى آخر. خذ مثلا حالة تركيا التى كانت تناهض الموقف الروسى وتشترط رحيل نظام بشار الأسد كمقدمة لحل سياسى، ولكنها تحولت عن هذا الموقف، وأعلنت سعيها لتحسين علاقاتها مع ذات النظام، وينطبق ذلك على دول وأطراف أخرى وهو ما يجعل البحث عن تسوية سلمية للوضع فى سوريا أمرا فى غاية الصعوبة، فما هى أسباب تعقد هذا الوضع؟ وهل هناك أى احتمال لمثل هذه التسوية السلمية فى الوقت الراهن؟ وهل يمكن للحكومة المصرية فى ظل هذه الأوضاع أن تتخذ موقفا يلقى تأييد كل الدول الصديقة لها أو التى ترتبط معها بمصالح قوية، وفى مقدمتها المملكة العربية السعودية والاتحاد الروسى والولايات المتحدة الأمريكية، على أن يكون هذا الموقف فى نفس الوقت متوافقا مع مصالح الشعب السورى فى السلام وإعادة البناء وفرض سيادته على كامل إقليمه؟
***
مصدر الصعوبة الأولى فى الوضع السورى هو كثرة الأطراف المنخرطة فيه: هناك الدول التى تشترك فى العمليات العسكرية. طبعا هناك أولا الحكومة السورية، ثم حكومات من خارج الشرق الأوسط فى مقدمتها الولايات المتحدة ودول غربية تتراوح من فرنسا إلى أستراليا، وهناك الاتحاد الروسى، ثم دول من داخل الشرق الأوسط مثل إيران التى تؤيد الحكومة السورية وتركيا التى يتقلب موقفها ثم دول الخليج العربى وعلى رأسها المملكة العربية السعودية وقطر التى تساند التنظيمات المعادية للحكومة السورية وخصوصا ما أصبح يعرف بفتح الشام أو جبهة النصرة المرتبطة سابقا بتنظيم القاعدة. وأخيرا هناك دول مراقبة للوضع فى سوريا مثل مصر التى تنشط دبلوماسيتها للبحث عن أنصار سوريين يعارضون حكم الأسد ولكن لا توجد قوات لهم على الأرض، وإسرائيل التى تتدخل عسكريا بين الحين والآخر، ولكنها توفر العلاج للمنضوين تحت لواء جبهة النصرة عندما يحتاجون له، وهو أمر كان موضع نقاش فى الصحف الإسرائيلية.
طبعا هؤلاء ليسوا هم كل الأطراف المنخرطة فى هذا الصراع المسلح أو المهتمون به. هناك التنظيمات المسلحة، منها ما يعارض الحكومة السورية، وأقواها بكل تأكيد فتح الشام ويليها ما يعرف بداعش اختصارا لاسمها المكروه فى الوطن العربى وهو الدولة الإسلامية، وهناك ما يسمى بالمعارضة المعتدلة غير الإسلامية وأهمها ما يسمى بالجيش السورى الحر، وهذه المعارضة المعتدلة تنقسم إلى فرق عديدة وليس لها وزن كبير إلى حد يدفع وزير الخارجية الروسى إلى أن يتحدى نظيره الأمريكى مطالبا الولايات المتحدة بأن ترسل له عناوين هذه المعارضة المعتدلة، ومن ناحية أخرى هناك التنظيمات المسلحة التى تساند الحكومة السورية مثل قوات حزب الله اللبنانى. والعديد من تنظيمات الشيعة العراقيين فضلا عن التنظيمات شبه الرسمية التى جندتها الحكومة السورية، وأشهرها ما يعرف باسم الشبيحة.
لقد بسطت الصورة إلى أبعد حد، طبعا هناك دول أخرى ضمن ما يسمى بالتحالف الغربى، ولكن مواقفها متشابهة عموما، ولكن الوضع أكثر تعقيدا فيما يتعلق بالتنظيمات المسلحة فأعدادها كثيرة، والجنسيات التى تحارب فى صفوفها تأتى من معظم دول العالم سواء من دول غربية أو عربية أو إسلامية، وهى تتنافس فيما بينها، وليس لها استراتيجية أو أهداف واحدة.
***
مجرد التعدد الهائل لأطراف الحرب الدائرة فى سوريا يجعل البحث عن حل لها أمرا صعبا. ولذلك فعندما تصل الخلافات حول مسار الصراع المسلح أو جهود التسوية إلى باب مسدود، يتم اختصار كل هذه الأطراف فى عدد محدود حتى يمكن أن يجرى بينها حوار حول القضايا الأساسية دون أن يستغرق وقتا طويلا، ولذلك اقتصرت الدعوة إلى لقاء لوزان هذا الأسبوع على الولايات المتحدة وروسيا وإيران والمملكة العربية السعودية وتركيا وقطر.
وليس التعدد فى هذه الأطراف هو وحده المشكلة، ولكن تعريف الأطراف التى يجب أن تشترك فى الحوار هو مشكلة أخرى. من المعروف أن مفاوضات جرت فى جنيف بين ممثلين للقوى السورية المعارضة والحكومة السورية. أصرت الحكومة السورية على ألا تشترك فى هذه المفاوضات تنظيمات إرهابية، وبالنسبة لها كل من يرفع السلاح فى مواجهتها هو إرهابى. ضغوط السعودية يمكن أن تجعل ممثلين لجبهة النصرة يشتركون فى مثل هذه المفاوضات إن استؤنفت، ولكن الاتحاد الروسى لا يقبل تغيير اسم جبهة النصرة إلى فتح الشام وإعلان قطع صلتها بتنظيم القاعدة باعتبار ذلك كافيا لإسقاط وصفها بالإرهابية، ولكن الكل موافق على أن وصف الإرهابية ينطبق على داعش. ولكن ماذا عن الأعمال التى يرتكبها أنصار الحكومة السورية سواء من حزب الله أو الميليشيات الإيرانية أو العراقية الشيعية؟ أليست أعمالا إرهابية؟ لا يثير وضع هذه الميليشيات صعوبات دبلوماسية لأنها لا تطالب بالمشاركة فى المفاوضات. كيف يمكن لأى مفاوضات أن تنجح إذا كان بعض الأطراف ــ الحكومتان السورية والروسية مثلا ــ ترفض تماما وجود أطراف أخرى أساسية فى هذا النزاع.
لا يقتصر الأمر على صعوبة الاتفاق على من يشترك فى المفاوضات، ولكن تناقض مواقف الأطراف وتحولها أحيانا من النقيض إلى النقيض. الحكومة السعودية ومعها قطر وتركيا وتؤيدها فرنسا فى الوقت الحاضر والولايات المتحدة سابقا كانت تشترط رحيل نظام الأسد كمقدمة للحل السياسى، بينما تصر روسيا على أن مصير الأسد يحدده الشعب السورى، وهو نفس موقف الأسد الذى يريد أن تجرى انتخابات الرئاسة السورية التى سيكون مرشحا فيها وهو ما يزال فى السلطة. وهو الأمر الذى ترفضه فصائل المقاومة السورية. تبدى كل من الولايات المتحدة وتركيا مرونة بالنسبة لمصير بشار الأسد، ولكن لا يبدو أن كلا من السعودية وقطر قد تخلتا عن هذا المطلب على الرغم من أن الوضع العسكرى فى سوريا، والذى تحول لصالح الأسد بعد التدخل الروسى العام الماضى، لا يشجع على التمسك بهذا المطلب.
***
ويضاف إلى التناقض الظاهر فى المواقف عدم مصداقية المطالب المعلنة والشك بل ربما اليقين أن وراء المواقف المعلنة هناك أجندة أخرى خفية، والسبب فى ذلك القلق مما سيكون عليه الحال فى سوريا لو سقط نظام حزب البعث. فمن سيكون مرشحا لخلافته؟ لا يعتقد أحد أن ما يسمى بالمعارضة المعتدلة ــ وهى بالمناسبة التى يتعاطف معها كاتب هذه السطور ــ هى التى يمكن أن تكون لها اليد العليا فى حكم سوريا بعد سقوط نظام البعث. أغلب الظن أن أيا من القوى المتصارعة فى سوريا فى الوقت الحاضر لن تستطيع أن تحسم الأمور لصالحها إن سلما أو حربا، وأن أى قوة يمكن أن تكون لها الغلبة إن حدث ذلك لن تخرج عن فتح الشام ذات الصلات السابقة بتنظيم القاعدة أو حتى داعش. ولهذا السبب تؤيد قطاعات واسعة من الشعب السورى خصوصا فى صفوف البرجوازية السورية وغير المسلمين بقاء نظام حزب البعث خوفا من هذه التنظيمات المتطرفة، كما لم تظهر الولايات المتحدة وحلفاؤها من الدول الغربية همة كبيرة فى غاراتها الجوية ضد قوات الجيش السورى، واقتصرت مهامها فى أغلب الأحيان على ملاحقة التنظيمات الإسلامية. الأفضل فى حقيقة الأمر بالنسبة للدول الغربية وإسرائيل هو استمرار الصراع فى سوريا دون أن يتمكن أى من الأطراف من حسمه لأنها لا تريد لأى من أطرافه السوريين أن ينتصر، فبشار الأسد حليف لإيران، والتنظيمات الإسلامية معادية للولايات المتحدة وللغرب عموما. أما انتقاد هذه الدول لنظام الأسد وانتهاكاته لحقوق الإنسان فهو خطاب موجه للرأى العام فى بلادها وفى العالم، وهو ورقة يمكن أن يكون لها بعض الأثر فى التفاوض مع الاتحاد الروسى.
وهكذا فإن كثرة أطراف الحرب الدائرة فى سوريا، وعدم قبول بعضها بحق أطراف أخرى فى المشاركة فى مفاوضات التسوية وتناقض المواقف المعلنة لكل الأطراف ووجود أجندة غير معلنة لبعضها يجعل من المستحيل حتى الآن الوصول إلى تسوية له تكون مرضية لكل هذه الأطراف، فيمكن تطبيقها على الأرض.
***
ما هو أعزائى القراء الموقف الذى يمكن أن تتبناه الحكومة المصرية إزاء هذا الصراع الذى يدفع الشعب السورى ثمنا باهظا له؟ الحكومة المصرية تتبنى نفس موقف الحكومة السورية وتعتبر أن كل من يرفع السلاح فى وجه حكومته هو إرهابى، ولها علاقات وثيقة بكل أطراف النزاع باستثناء إيران وقطر وهى ملتزمة بموقف الجامعة العربية من مقاطعة النظام السورى. أدت هذه الاعتبارات بالحكومة المصرية إلى تأييد مشروعى قرار لطرفين متناقضين، ولكن لها مصالح قوية مع كل منهما. أرضى موقفها الحكومة الروسية ولم يسبب مشكلة مع الحكومات الغربية، ولكن تضايقت منه الحكومة السعودية. لو كان المندوب المصرى قد اكتفى بالامتناع عن التصويت على المشروع الروسى بدلا من الاعتراض عليه، لما رضيت الحكومة السعودية بذلك ولاستاءت روسيا من هذا الموقف. كان الاختيار صعبا أمام الحكومة المصرية، فهل لديك نصيحة أخرى، وخصوصا أن هذا الموقف قابل للتكرار فى ظل أوضاع الشرق الأوسط ما بعد الحرب الباردة؟