ليس هناك أى مغالاة، كما لا أدعى أنه اكتشاف جديد، الإقرار أن أزمة التطور التاريخى لمصر فى الوقت الحاضر، وبعد ثورة الخامس والعشرين من يناير، تكمن فى ذلك الخلاف المستعر بين التيارات الإسلامية على تنوعها، وكل التيارات السياسية الأخرى، وخصوصا الليبرالية والاشتراكية، وهو خلاف لا يقتصر على النخبة كما قد يتصور البعض، لأن هناك أقساما مهمة من المواطنين تهتم أيضا بهذا الخلاف لأنه من وجهة نظرها له انعكاسات مهمة ليس فقط على شكل النظام السياسى، ولكن على قضايا أخرى عديدة..
وليس هناك تصور مؤكد لعلاقات القوة بين الطرفين، التى قد تحدد نتيجة هذا الخلاف، ولكن لا يبدو أن أيا منهما قادر على حسمه اعتمادا على عناصر القوة التى قد يستخدمها فى معركة انتخابية، والأمل أن يقتصر الخلاف بين الفريقين على الأساليب السلمية، وعلى الرغم من تباين التقديرات بالنسبة للقوة الانتخابية لفريق الإسلاميين، فإن الأرجح أنهم لن يستطيعوا تجاوز نصف الناخبين فى أى انتخابات عامة، والمرجح أنهم سيكون لهم أكبر عدد من المقاعد فى انتخابات تشريعية قادمة، ومن ثم ستكون لهم القدرة على أن يلقوا بثقلهم فى تشكيل الجمعية التأسيسية التى سيوكل لها وضع الدستور الجديد، وفقا للجدول الزمنى الذى حدده المجلس الأعلى للقوات المسلحة، ويرى كثيرون أن هذا الفريق قد لقى أيضا تأييد المواطنين فى الاستفتاء الذى جرى فى التاسع عشر من مارس، ولهذا السبب يفضل معظم أنصار الفريق الآخر المبادرة بصياغة الدستور الجديد قبل الشروع فى أى انتخابات تشريعية أو رئاسية، فهذا أفضل من تركها للفريق الأول يصنع فيها ما يشاء.
ومع ذلك لا يستريح قسم مهم من الإسلاميين إلى هذه التوقعات، يبذلون جهودا حثيثة للاشتراك مع ممثلين للفريق الآخر فى مسعى للخروج من هذا الموقف بصياغة مبادئ عامة توصف بأنها فوق دستورية يسترشد بها من سيصيغون الدستور الجديد، وربما يصلون إلى الاتفاق جميعا على قائمة انتخابية مشتركة يخوضون بها الانتخابات التشريعية المقبلة، وقد لقيت هذه الدعوة من جانب الإخوان المسلمين وحزب الوفد تأييدا من جانب عدد مهم من الأحزاب والقوى السياسية القديمة والجديدة، ولم تصل بعد إلى نتائجها النهائية لحظة كتابة هذه السطور.
لماذا بدأ الحوار؟
ولكن ما الذى يدعو هذه القوى المتباينة على الدخول فى هذا الحوار؟ لحسن الحظ أن كلا من الفريقين يدرك أنه لا يملك وحده القدرة على إدارة شئون البلاد وحده. الإسلاميون مع اعتقادهم بتفوقهم المحتمل فى صناديق الانتخاب يعرفون جيدا أن أقساما مهمة من النخبة بين المثقفين والفنانين والأدباء والخبراء فى مجالات مختلفة ورجال الأعمال من المسلمين فضلا عن الأقباط لا يشاركونهم آراءهم بالنسبة لنوع المجتمع والنظام السياسى الذى يتطلعون إلى إقامته فى مصر، والفريق الثانى الذى يرفع شعار الدولة المدنية يعرف أنه مع يقينه أنه يملك الحل لمشاكل الوطن، إلا أنه يخشى صندوق الانتخاب فى الوقت الحاضر، ويعرف أنه لأسباب عديدة لا يستطيع إقناع غالبية الناخبين بصحة مواقفه، وعلى الرغم من أن نتيجة استفتاء ١٩ مارس لا يمكن اعتبارها انحيازا كاملا من الناخبين للتيارات الإسلامية، فإن هذا الفريق يخشى أن تتكرر نفس النتائج أو نتائج قريبة منها عندما يحين موعد الانتخابات التشريعية القادمة. ولهذه الأسباب لجأ الفريقان إلى الحوار الذى بدأ فى الأسبوع الماضى على أمل أن يجدا مخرجا لخلافاتهما على نحو يسمح بالتقدم نحو الانتخابات المقبلة بعد صياغة إعلان أو وثيقة بالمبادئ فوق الدستورية التى تبعث الطمأنينة فى نفوس التيارات الليبرالية والقومية وبعض قوى اليسار أنه أيا كانت نتيجة الانتخابات، فإن معالم مستقبل النظام السياسى والاجتماعى فى مصر هى تلك التى تلقى نوعا من الإجماع الوطنى، ولكن هل يكفى الوصول إلى صياغة مثل هذه الوثيقة لطمأنة كل الأطراف وإدارة الخلاف بين الفريقين وفق قواعد اللعبة الديمقراطية وداخل الحدود التى ترسمها هذه الوثيقة المبتغاة؟ يحول دون الوصول إلى هذه النتيجة أمران أحدهما ظرفى والآخر جوهرى.
عقبات الوصول إلى الحل.. الوسط التاريخى
العقبة الأولى هى أن بعض القوى السياسية الأخرى لم تدخل فى هذا الحوار بعد، وفى مقدمتها القوى الليبرالية الجديدة مثل حزب المصريين الأحرار والحزب المصرى الديمقراطى الاجتماعى، وكل الأحزاب اليسارية الجديدة، وكثير من جماعات الشباب التى قادت ثورة الخامس والعشرين من يناير. وما لم تدخل هذه القوى فى ذلك الحوار الذى بدأه الوفد مع الإخوان المسلمين، فسوف تنظر إلى هذا الحوار باعتباره وسيلة لاستبعادها فى مناورة انتخابية بين أطراف قديمة فى اللعبة السياسية تريد استبعاد من تراهم علمانيين ومسيحيين، بل وحتى لو شاركت هذه القوى الليبرالية واليسارية، فإنها سوف تظل تشك فى التزام الإخوان المسلمين بنتائج هذا الحوار، وخصوصا إذا ما حصلوا فى الانتخابات القادمة على أغلبية ليست بالضرورة مطلقة، ولكنها تتجاوز بكثير نسبة الثلث التى يقول الإخوان المسلمون إنهم يستهدفونها ويكتفون بها.
العقبة الثانية الجوهرية هى وجود خلافات عميقة بين الجانبين تتعلق بنوع المجتمع الذى يهدف كل منهما للوصول إليه، وفى الواقع فإن صالح التطور السلمى لمصر يقتضى التصريح بهذه الخلافات وعدم إنكارها، وربما السعى للوصول إلى حل وسط تاريخى بشأنها، الفريق الليبرالى واليسارى لا يحارب الدين، ولا يتجاهل دور الإسلام الثقافى فى مصر، ولكنه يشك فى إمكان إقامة نظام سياسى دافع للتقدم الاجتماعى والاقتصادى والثقافى والسياسى على أساس الدين، فلا توجد دولة متقدمة واحدة فى العالم تقيم نظمها على أساس الدين، والدول التى تقترب من ذلك هى التى تقيد حريات المواطنين الفكرية والاجتماعية والسياسية والشخصية، الأقرب إلى هذه الدول هى إيران والمملكة العربية السعودية، وعندما ينجح حزب ينتسب إلى الإسلام ولو ضمنا مثل حزب العدالة والتنمية فى تركيا، فإن النظام الذى يقيمه هو نظام الديمقراطية الليبرالية الغربية، الإسلام من وجهة نظر هذا الفريق ضرورى لبعث همة المواطنين وتشجيعهم على بذل الجهد لصالح المجتمع، وطلب العلم وقبول حرية البشر فى الاختيار، فهل يقبل الإسلاميون بهذه الرؤية لدور الدين فى الحياة العامة، وهل يقبل الليبراليون واليساريون أيضا التصالح مع تراث أمتهم الثقافى وأن يترجموا هذا التصالح بتقدير الدور الروحى والأخلاقى للإسلام فى بناء الأمة؟ التنازل مطلوب من كل من الفريقين للوصول إلى مثل هذا الحل الوسط التاريخى. إذا ما تحقق ذلك لن يكون من المهم من الذى يكسب الانتخابات التشريعية والرئاسية القادمة، ولا من ستكون له الغلبة عند صياغة الدستور الجديد.