ليس هناك أدنى شك فى أن الوطن بحاجة إلى حوار واسع وشامل وملزم يتناول القضايا الحيوية والأساسية لمرحلة الانتقال، ويطرح رؤية استراتيجية للتعامل معها، ومع ذلك، وعلى كثرة الحوارات التى تجرى هذه الأيام، فلا شك أيضا أن أيا منها لا يرقى إلى مستوى الحوار المطلوب، أو أنه يفى بالشروط الصحيحة لحوار حقيقى. والواقع أن المضى فى هذا النوع من الحوارات يذكر بحوارات سابقة دارت فى ظل النظام الذى سقط، ولا يكاد يذكرها أحد، لهزالة ما تمخض عنها، ولابتعادها عما كان مطلوبا وقتها، مثل ابتعاد الحوارات الجارية عما هو مطلوب فى هذه اللحظة الفاصلة فى تاريخ الوطن.
ماهى المشكلة فى الحوارات الجارية؟
المشكلة الأولى فى الحوارات الجارية هى موضوعاتها، فلقد اتخذت بالفعل قرارات جوهرية وحاسمة فى تقرير مسار الفترة الانتقالية بل ومصير الوطن، مثل تحديد ترتيبات المرحلة الانتقالية، وقانون منع التظاهر والاعتصام، وتعديلات قانون الأحزاب السياسية، وأخيرا تعديلات قانون مباشرة الحقوق السياسية، ويجرى الآن الإعداد لإصدار قانون ينظم عملية الانتخابات، ومع الأهمية البالغة لكل هذه القوانين فى تحديد خطوات المرحلة الانتقالية وشروط الخروج منها، وبعبارة أخرى تحديد شروط اختيار من سيحكم مصر فى الفترة القادمة، إلا أن كل هذه القرارات والقوانين والتعديلات لم تخرج عن نقاش واسع، ولم يسبق صدورها مشاورات مع من يهمهم الأمر، ولم تعرف الأغلبية الساحقة من المواطنين عنها إلا بعد صدورها بالفعل، كما أن هناك أمورا أخرى تستحق شفافية كاملة ومصارحة ضرورية مثل الأسباب الحقيقية للتأخر فى استعادة الأمن وتراخى أجهزة الشرطة فى تتبع وملاحقة المسئولين عن خرقه، أو أسباب التعامل بالغ الرقة مع الرئيس السابق وأفراد عائلته فى الوقت الذى قدم فيه نشطاء سياسيون من الشباب لمحاكمات عسكرية عاجلة.
•••
والمشكلة الثانية فى هذه الحوارات هى شخصيات المشاركين فيها والقائمين عليها، فالمشاركون فيها هم مواطنون لا حول لهم ولا قوة، بعضهم بكل تأكيد أشخاص أفاضل ولكن هؤلاء الذين يملكون سلطة صنع القرار بالنسبة لقضايا الوطن المصيرية وهم تحديدا أعضاء المجلس الأعلى للقوات المسلحة لا يشاركون فى هذه الحوارات، وليس هناك من سبب مقنع لذلك فطالما ارتضى أعضاء المجلس أن يقودوا مسيرة الوطن فى هذه المرحلة الانتقالية، وأن ينخرطوا فى العمل السياسى، فالمتوقع هو ممارسة هذا العمل بأساليبه وهى الحوار وعرض الحجج والاستماع لحجج الآخرين ومحاولة بلورة إجماع وطنى حول القضايا الاستراتيجية، والإقلاع عن أسلوب قصر تناول هذه القضايا على غرف مغلقة ومفاجأة الرأى العام بها. وهناك جانب ثان لهذه المشكلة لا يقل أهمية عن ضرورة مشاركة أعضاء من المجلس الأعلى للقوات المسلحة فى هذه الحوارات، وهى أن يتصدى لها من شاركوا فى الثورة منذ أيامها الأولى لا أن يرأس واحدا منها شخص يستحق بكل تأكيد الاحترام والتبجيل، ولكنه كان يرأس حتى سقوط النظام السابق اتحاد الجمعيات الأهلية بالتعيين من جانب رئيس الجمهورية المخلوع، وهو اتحاد غير منتخب، ووظيفته الأساسية هى الرقابة على العمل الأهلى فى مصر الذى تقوم به الجمعيات الأهلية، بل وسمعته بنفسى فى مؤتمر كبير بشرم الشيخ منذ عامين يعلن تأييده لإصدار قانون جديد للجمعيات الأهلية يقيد نشاط هذه الجمعيات، وهو قانون كانت تعد له وزارة التضامن، وغالبا بالتعاون الوثيق مع جهاز مباحث أمن الدولة. ولذلك لا غرابة أن يجرى اختيار شخصيات من الحزب الوطنى المحلول للمشاركة فى هذا الحوار، وفضلا على ذلك، ومع الاحترام لشخصيات أخرى قامت بدور أساسى فى هذا الحوار، إلا أن بعضا منها كانوا أعضاء فى لجنة السياسات، أو كانوا يديرون مراكز بحثية كان جمال مبارك عضوا فى مجلس إدارتها، أو كانوا يشاركون فى تلميعه بدعوته ليكون «نجم الشرف» فى ختام مؤتمراتهم المعقودة فى أفخم الفنادق والمحاطة بتغطية واسعة من الإعلام شبه الرسمى المكتوب والمقروء. بطبيعة الحال يمكن أن يشارك هؤلاء فى هذا الحوار طالما أنهم لم يشاركوا فى إفساد الحياة السياسية، ولكن تصدرهم لهذا الحوار «الوطنى» يجعل المرء يتساءل عن مدلول كلمة الوطنى التى ألصقت بهذا الحوار، ويكاد يقتنع بأن مدلولها هو أن الحزب الوطنى المحلول حاضر فيه بطريقة أو بأخرى.
•••
والمشكلة الثالثة هى غياب أى معايير واضحة فى اختيار من يشاركون فيه، ويبدو أن هذه المشكلة تسبب حرجا للقائمين على هذا الحوار، وقد اجتهدت كثيرا للحصول على قائمة المشاركين، ولم أوفق فى ذلك، ويبدو أننى لم أكن الوحيد الذى سعى إلى مثل هذه القائمة ولم يصادفه الحظ، وعلى سبيل المثال، فإن لى زملاء فى قسم العلوم السياسية بجامعة القاهرة، ولم يكونوا من أعضاء الحزب الوطنى وغيرهم من الزملاء فى قسم الاقتصاد بالكلية، وهم من أصحاب التوجهات المستقلة، وانتقد كثيرون منهم سياسات الحزب المحلول كتابة وقولا ومشاركة فى أنشطة معارضة قبل الثورة وبعدها، ومع ذلك لم أسمع عن مشاركة أى منهم فى هذا الحوار الأخير ولا فى عضوية لجنة الوفاق الوطنى المنوط بها صياغة المبادىء العامة للدستور الجديد.
•••
وتنقلنا هذه المشكلة الثالثة إلى مشكلة رابعة وهى أننا ربما كنا سنرضى بالاستغناء عن المشاركة فى أى حوار عام حول قضايا الوطن، وهذا لا يجوز، ولكن فلنقل إن إصرارنا على المشاركة فى هذا الحوار كان سيصبح أقل إلحاحا لو كانت القرارات المصيرية التى اتخذت هى قرارات يسلم بحكمة من اتخذوها، ولكن من الواضح أن قرارات معينة تتخذ بدون تشاور ثم يكتشف من اتخذوها أنها تؤدى بهم إلى غير ما يريدون، أو أنها قد تفضى إلى بعض المخاطر، ولهذا وجدنا إعلانا دستوريا من اثنتين وستين مادة يصدر بعد ما وصف بأنه موافقة شعبية عارمة على تعديلات دستورية معناها المنطقى الوحيد هو العودة إلى الدستور الذى وافق الشعب على تعديله، وهكذا سمعنا وقرأنا عن لجنة وفاق قومى معينة تضع مبادىء دستور يفترض وفقا للتعديلات التى وافق عليها الشعب أن تضعه جمعية تأسيسية يختار أعضاءها البرلمان الذى سينتخب فى سبتمبر القادم. ألم يكن من شأن حوار وطنى واسع يشترك فيه أعضاء من المجلس الأعلى للقوات المسلحة مع ممثلين للقوى السياسية التى شاركت فى الثورة وقيادات مجموعات الثوار الشباب وممثلين للمجتمع المدنى وخبراء موثوق بأمانتهم ونزاهتهم أن يصلوا إلى قرارات أبعد نظرا وأكثر قبولا من جانب الرأى العام والقوى السياسية الفاعلة فى أعقاب الثورة والمؤيدة لها.
هل نشرع فى حوار وطنى جديد على أسس مختلفة؟
أعترف لك عزيزى القارىء أننى فى حيرة من أمرى فلا يبدو أن تعدد الممارسات الموصوفة بالحوار الوطنى قد أكسب فكرة هذا الحوار أى مصداقية، ومع ذلك فمظاهرات جمعة الغضب بمن شارك فيها ومن لم يشارك فيها تؤكد أننا بحاجة إلى حوار حقيقى ينفتح على كل القضايا الشائكة والحساسة التى لا نجد لها جوابا مقنعا ويشارك فيه أعضاء من المجلس الأعلى للقوات المسلحة إلى جانب ممثلين للقوى التى شاركت فى الثورة، وتكون معايير اختيار المشاركين فيه واضحة وشفافة وكذلك أسلوب اتخاذ القرار فيه، ويكون هذا الحوار هو الحوار المركزى فى المجتمع مع إيجاد الآليات التى تسمح بأخذ اتجاهات المواطنين إزاءه موضع الاعتبار.
أخشى أننا إن لم نبدأ مثل هذا الحوار وبهذه الشروط فقد ينتهى بنا الأمر إلى قرارات متسرعة يعدل عنها من اتخذوها بعدها مثلما حدث فى الماضى القريب مع تكرار لجمع الغضب، ويدفع الوطن مقابل ذلك ثمنا باهظا.