من البذور التى زرعت من آلاف سنين مضت إلى بناء المدن التى ما زلنا نسكن، إلى الاكتشافات العلمية التى ساعدتنا على البقاء، نحن ورثة ما لا يحصى من إنجازات وهبات أسلافنا، وبينما كان تراكم الإنجازات والأحداث فى الماضى يتطلب فترات زمنية طويلة فإن عالمنا اليوم ينشغل على مدى الساعة بما قد لا يساعدنا أن نتوقف ونتساءل عن نتيجة وعواقب ما نفعله الآن على الأجيال القادمة، ولكن هل من الممكن أن نتوقف عن طريقة العيش تلك وعما يحدث الآن وربما غدا ونتحول لطريقة التفكير التى تنشغل أيضا بما يحدث فى المستقبل أو المدى الطويل؟، فى كتابه المنشور من شهور قليلة بعنوان «السلف الصالح» يجادل رومان كرتسناريك بأن بقاء الجنس البشرى مرتبط بتبنى الأفكار والوسائل طويلة الأمد والابتعاد عن التركيز على المدى القصير فقط.
إحدى البدايات المهمة للتفكير فى المستقبل جاءت فى التقرير المهم الذى صدر فى عام 1987 والذى كتبته اللجنة الدولية بقيادة جرو هارلم برونتلاند رئيسة وزراء النرويج السابقة بعنوان «مستقبلنا المشترك»، والذى جاء فيه أن «الإنسانية لديها القدرة على جعل التنمية مستدامة بالصورة التى تمكننا من الاستجابة لاحتياجاتنا فى الحاضر بدون الإضرار بحق الأجيال القادمة بتحقيق احتياجاتها»، وهذا التقرير هو من قدم لنا كلمة «الاستدامة» بالصورة التى نتداولها الآن.
***
وبالرغم من أن فكرة الاستدامة مهمة للغاية ولكن تطبيقها يحمل تحديا كبيرا لم يأخذه البعض بالجدية الواجبة إلا مع ظهور البيانات التى تخص التغير المناخى وتأثير النشاط البشرى على البيئة للدرجة التى تهدد بانهيار النظام الطبيعى الذى يدعم الحياة على كوكبنا، ساهمت أيضا بعض الدراسات التى حددت بعض القياسات التى تمكننا من معرفة الحد الذى نتجاوز به الحدود الطبيعية للكوكب كتلك الدراسة التى أصدرها باحثو مركز ستوكهولم للمرونة البيئية فى عام 2009.
ظهرت أيضا بعض الدراسات الاقتصادية الرائدة والتى تتناول فكرة النمو وشككت فى مدى أهمية اعتبار الناتج المحلى الإجمالى كمقياس رئيسى (يستخدم أحيانا كمقياس وحيد) للنمو، كما دعت دراسات أخرى إلى مراجعة فكرة النمو ذاتها وقدمت مقترحات عملية لأفكار ربما تكون أكثر ملائمة مثل «الازدهار» الذى يتبنى تحقيق الإنسان لاحتياجاته ومعيشته بدون أن تؤدى أنشطته للتعدى على الحدود الطبيعية لكوكب الأرض، وتقاوم تلك الأفكار التحدى الناتج من تبنى أفكار النمو الخطى المبنى على الاستهلاك والذى هو السبب الرئيسى وراء التدهور الكبير فى التنوع الطبيعى وازدياد الانبعاثات المسببة لغازات الاحتباس الحرارى.
يحكى سير «ديفيد أتنبره» أنه فى السبعينيات من القرن العشرين حين زار الغوريلا الجبلية فى رواندا الإفريقية لم يكن تبقى منها سوى أعداد قليلة وكانت على وشك الانقراض والآن وبعد أكثر من أربعة عقود من الجهد الدءوب للحفاظ على تلك المخلوقات وحمايتها أصبحت غير مهددة بالانقراض مما يمثل خبرا جيدا للنظام البيئى فى الغابة ككل لأن غياب بعض الكائنات من دورة الحياة الطبيعية المركبة كما يخبرنا العلم يهدد الجوانب الأخرى للحياة والتى طالما تجاهلنا أو لم نفهم بصورة مناسبة هذا الاعتماد المتبادل بين الكائنات والذى يمثل جوهر المنظومة المعقدة للحياة، إنقاذ بعض الكائنات المهددة إذا هو إنقاذ للغابات والنظام البيئى الأكبر الذى يدعم بدوره قدرتنا على البقاء والاستمرار.
***
فى جانب آخر وفى عالم ما تحت الماء يقدر العلماء أنه فى خلال سنوات قليلة ونتيجة للاحتباس الحرارى فقد الحيد المرجانى فى أستراليا نحو 50% منه والشعب المرجانية هى نظام بيئى مركب للغاية يحتاج لآلاف السنين حتى ينمو بالصورة التى تمكنه من دعم الحياة البحرية وهو بالرغم من أنه لا يشغل سوى 2.5% من البحار والمحيطات إلى أن نحو ربع الأسماك تحتاج إليه فى دورة حياتها وبالتالى انهياره هو انهيار للحياة البحرية، لا نعرف للأسف بدقة مدى تدهور حالة الشعاب المرجانية لدينا فى البحر الأحمر ولكن لدينا العديد من الدراسات والمشاهدات التى توثق لأدلة على حدوث ذلك والتأثير هنا ليس فقط على الحياة البحرية ولكن على الأنشطة المعتمدة على الغوص وما شابه وهى تمثل أغلب السياحة الآتية لمصر.
وبينما يوضح ما حدث فى إنقاذ الغوريلا الجبلية إمكانية إنقاذ النظم الطبيعية التى تدعم حياتنا على الأرض ولكن ذلك يتطلب العمل الدءوب عبر سنين طويلة وهو ما قد يتطلبه العمل على إنقاذ النظام البيئى التى تمثل الشعاب المرجانية جزءا رئيسيا فيه على طول البحر الأحمر، ربما ما زال هناك أمل فى التحول لتلك النوعية من التفكير التى هى ضرورية لإنقاذنا وإنقاذ الأجيال القادمة والتى ترتبط ولا شك بأفكار جوهرية لتغيير إدراكنا وتعاملنا مع الاقتصاد والثقافة والديمقراطية والتى من شأنها أن تساعدنا فى بداية حاضر أفضل ومستقبل مزدهر لأحفادنا القادمين.
***
لفتت كورونا أنظارنا لأهمية مواجهة التحديات والكوارث الكبرى التى تواجه البشرية ولكن وكما يقول رومان كريتسنارك ليس بالضرورة أن تأخذنا الأحداث الكبرى أو الكوارث باتجاه دون آخر فمثلا دفع الكساد العظيم فى أوائل القرن العشرين بعض الدول مثل الدول الإسكندنافية إلى اعتماد الديمقراطية الاجتماعية بينما أخذت دول أخرى كألمانيا مسارا فاشيا. لذلك علينا أن نفكر مليا فى استجابتنا أو رد فعل لما نواجهه من تحديات كبرى أو ما قد يرقى لدرجة الكوارث، يجب أن نتأمل العواقب المحتملة لاستجابتنا وخاصة تلك طويلة الأمد.
نحتاج لدراسات وأبحاث ومناقشات عامة تساعدنا على تغليب التفكير طويل الأمد على ذلك الذى يتسم بقصر الأمد وهى فى الحقيقة ليست مشكلة مجتمعنا فقط ولكننا نتشارك فيها مع مجتمعات عديدة عبر العالم، وبينما يعبر المثل الشعبى المشهور لدينا عن المعزة الشديدة للأحفاد لكن يبقى السؤال هل يمكن أن نأخذ ذلك بجدية ونعمل ما من شأنه أن يساعد فى أن يتذكرنا أحفادنا بصورة طيبة وأننا لم نسلبهم حقهم فى الحياة ولم نترك لهم الأرض خرابا وأننا كنا كما نحب أن يتذكرونا «السلف الصالح»؟.