فى المغرب كما فى مدن عربية أخرى تؤدى مجموعة من الظروف من بينها التغيرات المناخية التى أدت لقلة سقوط الأمطار والسَحْب الجائر من آبار المياه إلى إيجاد ظروف قاسية هددت بقاء العديد من الواحات والقرى الصحراوية وتحولت أجزاء من تلك الواحات وأحيانا كلها إلى صحراء ماتت فيها الأشجار والنخيل. وازداد التنافس على المياه المتبقية للدرجة التى دفعت فى بعض المواقف للاختيار بين رى الزراعات فى الصحراء القريبة من المدينة أو توجيهها لسكان المدينة وبالطبع كان الاختيار واضحا وتم توجيه المياه لسكان المدينة رغم الخسارة الكبيرة للمزارعين.
كنا فى مصر إلى وقت ليس ببعيد لا نعانى مثل المغرب أو الأردن بسبب ندرة المياه ولكننا الآن وصلنا لوضع بلغ فيه نصيب الفرد من المياه نحو 600 متر مكعب سنويا وهو أقل من حد الفقر المائى. ويدفعنا هذا الموقف المائى، الذى يحيط بنا ويرافقنا للمستقبل، إلى مواجهة اختيارات صعبة تستدعى تحولا كبيرا فى تعاملنا مع المياه.
بدأت مصر منذ سنوات فى زراعة الغابات الشجرية المستخدم فى ريها مياه الصرف الصحى المعالجة. وفى الآونة الأخيرة هناك زيادة فى وتيرة زراعة تلك الغابات الشجرية فى أماكن متعددة فى مصر. وللوهلة الأولى يبدو هذا الاختيار لرى الغابات الشجرية التى تستهدف إنتاج الأخشاب منطقيا للغاية إذ إنك تستخدم المياه المستهلكة بدلا من التخلص منها كما أن تلك الغابات الشجرية المزروعة بالقرب من الإسماعيلية وبمدينة الغردقة ومناطق أخرى تنتج أخشابا يمكن الاستفادة منها بعد سنوات من الزراعة والرى.
***
ما أراه إشكاليا فى التوسع فى زراعة الغابات الشجرية شقين، الأول هو هل الأخشاب الناتجة من تلك الغابات هى منتج مستدام؟ أى أنه فى مقابل الأشجار التى يتم قطعها يتم زراعة أشجار أخرى؟ وهل كمية الأخشاب الناتجة بهذه الصورة لها تأثير كبير على استخداماتنا من الأخشاب؟ وهذا موضوع هام للغاية خاصة مع دخول الأخشاب (خاصة فى الدول المتقدمة وبعض الدول النامية) كمادة رئيسية للبناء وليس فى المفروشات فقط وذلك لقدرة الأشجار الكبيرة على امتصاص ثانى أكسيد الكربون من الجو بينما تتسبب الخرسانة المسلحة فى أضرار عديدة للبيئة بدءا من استخراج المواد المستخدمة فى إنتاجها ثم الكمية الكبيرة من الطاقة المستخدمة فى عمل مكونات الخرسانة الأساسية سواء الأسمنت أو الحديد والتى تتسبب فى إنتاج كمية كبيرة من الانبعاثات المسببة للتغير المناخى وأيضا الملوثة للبيئة والمؤثرة بصورة مباشرة على جودة الهواء الذى نتنفسه. أضف إلى ذلك صعوبة إعادة استخدامها ومشكلات أخرى متنوعة.
لتوضيح الصورة أكثر دعونا نقارن إنتاج الأخشاب من الغابات الشجرية بتجربة مبنية على إنتاج أخشاب مستخرجة مما يمكن اعتباره مخلفات ناتجة من تقليم النخيل سنويا كان يتم فى الغالب عمل منها الأقفاص التى تعبأ فيها المنتجات الزراعية وبعض الحرف البسيطة الأخرى. ما أضافته هذه التجربة هو الاستفادة بصورة أكبر كثيرا من تلك المخلفات وذلك من خلال ابتكارات محلية يتم من خلالها تحويل تلك المنتجات الزراعية منخفضة القيمة إلى ألواح خشبية تدخل فى إنتاج المفروشات ومنتجات أخرى. ربما يحتاج ذلك الابتكار إلى مزيد من الجهد والبحث لتعظيم الفائدة وتوسيعها لأن مصر، وهى الدولة الأولى فى إنتاج التمور فى العالم، لديها من المخزون الكبير من تلك المخلفات والتى يمكن من خلال مجهود وابتكارات حثيثة أن تتحول لمنتجات خشبية ذات قيمة كبيرة وربما كان من الممكن إدخالها فى عمليات البناء، وليس فقط كما يتم الآن فى إنتاج بعض المفروشات.
الشق الثانى هو الاستخدام الأفضل لمياه الصرف الصحى، فهل نستمر فى استخدامها فى رى الغابات الخشبية وتوسيع نطاقها أم نكتفى بمساحات محدودة من تلك الغابات ونستهدف تطوير معالجة تلك المياه باستخدام التقنيات التى تعتمد على النباتات والتى تنتج جودة مياه يمكن معها إعادة استخدام جزء كبير منها فى المنازل والمناطق الأخرى فى الاستخدامات التى تستهلك مياه كثيرة ولا تؤثر على صحة الإنسان كتنظيف المراحيض وربما يستخدم بعض الماء المتبقى من المعالجة فى رى بعض الأشجار الضرورية لإعادة التنوع الطبيعى لمدننا ومكافحة التأثيرات الحرارية الضارة للعمران الكثيف وهو ما يحسن من جودة الحياة فى تلك المدن وأيضا يوفر الظلال ويخفض درجة الحرارة المحلية. تستهدف تلك الطريقة الأكثر استدامة فى معالجة مياه الصرف الصحى أساسا خفض استهلاكنا للمياه العذبة مما يساعد فى استيعاب احتياجات الزيادات السكانية المتوقعة بدون عبء مالى لسنا قادرين على تحمل المزيد منه. وظهرت حديثا جدا عدة ابتكارات تمكن من إعادة استخدام جزء كبير من تلك المياه قد يصل إلى ستين فى المائة.
***
تنتمى تلك الابتكارات السابقة إلى ما يسمى بالاستخدام الدائرى. وقد أدى تبنى هذا الفهم أن تبدأ حتى الدول التى لا تعانى من ندرة ظاهرة فى المياه إلى التعامل بجدية مع تحويل النظام المائى إلى نظام دائرى وتركيز المجهودات البحثية فى ابتكارات تحاول تقليل الفاقد من المياه باستخدام وسائل طبيعية والتركيز على التعامل المحلى أو المكانى لتوفير المياه المفقودة فى الشبكات الرئيسية. وتحتاج تلك الابتكارات غالبا لإطار زمنى يصل لعدة سنوات ونقل التجارب إلى مشروعات أولية يمكن أن تنتشر بعد ثبوت نجاحها. ونحتاج نحن إلى ابتكارات مماثلة من المهم أن تكون محلية لكى تكون مستدامة كى تساعدنا فى مواجهة التحدى المائى والتنموى الذى نواجهه كما تقلل من احتياجنا لللجوء لطرق أخرى تستهلك الكثير من الطاقة وقد يكون لمخلفاتها ضرر ملموس مثل محطات تحلية مياه البحر.