لأن وصف المدن بأنها ذكية يسبب لى بعض الاستفزاز منذ سنين عدة، ولأن هناك من يستخدمها فى مصر كعلامة على التطور والتقدم، فقد سعدت بما قام به عملاق التكنولوجيا جوجل أخيرا بإلغاء تجربتها التى كانت قد بدأتها قبل بضع سنوات فى إحدى المدن الكندية لإنشاء أول حى ذكى يتم تصميمه ويستخدم فى إدارته أكثر التقنيات والخوارزميات الحاسوبية تقدما فى العالم، ويستخدم هذا المشروع نتاج ما تقوم به برمجيات الذكاء الاصطناعى، والتى تعتمد على جمع كمية كبيرة للغاية ودقيقة للغاية من بيانات المستعملين، ثم تعالج تلك البيانات باستخدام البرمجيات والخوارزميات المصممة للتعامل مع المواقف المختلفة للحياة اليومية، ويمثل جمع بيانات المستخدمين أكثر النقاط جدلا فى هذا المشروع خاصة لأن تلك البيانات المستخدمة تمكن الماكينات الذكية، والتى تدير تلك البيئة العمرانية، من توقع سلوك الأفراد ونتائجه على البيئة وتتعامل معه، تملك تلك الماكينات والحواسب الفائقة من المعلومات عنا ما يجعلها أحيانا أكثر معرفة بنا من أنفسنا طبقا لبعض التجارب وخبراء التقنية، كما أنها تجعلنا كما لو أننا تحت مراقبة دائمة، وتخزن أدق وأخص المعلومات عنا للاستخدام لاحقا، ربما فيما لا نعرفه أو نوافق عليه.. أظهرت لهم بعض التجارب الأولية أن التطبيق الذى غير معرفتنا بالخرائط والعالم والذى قدمته لنا منذ أكثر من عشرين عاما سيكون بحاجة لتطوير كبير فى حالة المدينة التى يصفونها بالذكية والتى سموها مدينة «الرصيف»، وذلك لخدمة التطبيقات والتقنيات من نوعية السيارات ذاتية القيادة وما شابهها.
ولكن التجربة كان لها طموح كبير يهدف إلى التعرف بصورة واقعية كيف سيتفاعل الناس مع الجوانب المختلفة والمتعددة لتلك البيئة، وهل فعلا سيرحبون بها ويتقبلون هذا التدخل الذى يهدف ظاهريا على الأقل إلى تحسين حياتنا؟ أم أنه سيؤدى إلى ردود أفعال أخرى تستدعى تعديل البرمجيات والخوارزميات أو ربما تؤدى إلى تأثيرات سالبة على الطبيعة؟ لا شك أن التجربة لو اكتملت كانت ستدعم تطوير برمجيات وخوارزميات تحتاجها جوجل لكى تستمر فى ريادتها للقطاع التقنى العالمى، ولكن اعتراض سكان المدينة والشكوك التى أبداها العديد تجاه التجربة أدى، لحسن الحظ ربما، لإيقافها الذى بالتأكيد لا يعبر عن النجاح.
***
زاد من سعادتى أحد التعليقات الطريفة والتى سمعتها أخيرا عن المدن الذكية لأحد الهولنديين فى مؤتمر علمى عن تخطيط المدن والتى وصف فيه تعبير «المدن الذكية» بأنه مماثل لتعبير «التدخين الصحى» (هو يقصد أن كلاهما خادع وغير معبر)، كان هذا فى إطار مناقشة أحد أفكار الأستاذ الهولندى الرائد مارتن هاير فى أن التركيز على ما يسمى المدن الذكية يؤدى إلى تأخير التركيز على ما نحتاجه فعلا لكى يتحول مجتمعنا لتبنى تحول حقيقى للاستدامة، وضرب مثالا على تركيز أحد برامج تمويل الأبحاث الأوروبى على ما يسمى «الخرسانة المستدامة» بالرغم من أن البديل الذى نحتاجه هو غالبا مختلف تماما، ويشير مثلا لأحد السياسات التى تبنتها أخيرا الحكومة الفرنسية والتى تقول إنه بحلول علم ٢٠٣٠ لن يبنى أى مبنى عام إلا بالخشب (وهو مادة مستدامة ولا مقارنة بينه وبين الخرسانة ولكن بحاجة لتطوير تقنياته)، ويقول إن مثل هذه السياسات هى ما نحتاجه لأنها ستدفع الابتكارات التقنية المتعلقة بالخشب لتحقيق الهدف المرجو وتقليل التأثير البيئى للبناء وما هو مرتبط به، طبعا ينطبق هذا على نصف الكرة الشمالى وبعض البلاد الاستوائية ولكنه لا ينطبق علينا، ولكن لا شك أن التزام الحكومة بصورة حقيقية بقضية الاستدامة يمكن أن يدفع البحوث العلمية لدينا وتوجيه الطاقات الكبيرة للباحثين ولطلاب الجامعات فى اتجاه نحن بأشد الحاجة إليه.
***
على جانب آخر يصطف بعض العلماء والباحثين والمهتمين بالبيئة الطبيعية الصحية وحياة مقبولة وعادلة للجميع مع اتجاه معاكس تماما لما يسمى ادعاء «ذكاء» وربما هو العكس تماما، فمثلا أظهرت بعض الدراسات أن السيارات حتى وإن تم تحويلها لتدار بمحرك وبطارية كهربائية فلن تكون حلا ناجحا للكارثة البيئية والانبعاثات التى تواجهنا، وأظهرت بعض الدراسات أنه حتى السيارات ذاتية القيادة التى تم وضع أمل كبير على قدرتها على العمل بصورة أكثر كفاءة وأمانا فى طرق المدن لن تستطيع حتى أن تنقذنا من تلك الكارثة البيئية.
الحل الذى يبدو واضحا ويكتسب كل يوم مؤيدين وأنصارا، بالإضافة إلى استناده على العديد من الدراسات والأبحاث هو الدراجة الهوائية أو الكهربية، وهى تقنية قد لا تقارن بالسيارة ذاتية القيادة ولكنها قادرة على توفير أداء وتأثير إيجابى على البيئة والناس بصورة كبيرة.
أليس إنفاق أموال أقل على بنية تحتية آمنة للدراجات وللنقل الجماعى أكثر ذكاء من إنفاق أموال طائلة سواء على السيارات الكهربائية أو الطرق والكبارى، أى أنك تنفق أقل لكى يتنقل ويتحرك أناس أكثر بصورة أكثر أمانا للبشر وإنقاذا للبيئة الطبيعية الهشة (وربما أكثر سعادة أيضا طبقا لبعض الدراسات). أليس هذا أكثر ذكاء؟
تحتاج تلك المدن الأكثر ذكاء ــ أو فى الحقيقة الأكثر مراعاة للبشر والطبيعة ــ بجانب الدرجات إلى وسائل نقل عام مكهربة بطاقة مولدة من الشمس أو الهواء وهو ما يحافظ على جودة الهواء، كما تحتاج لغطاء نباتى كافٍ مكون من الأشجار من نوعيات مدروسة بحيث تدعم التنوع الحيوى، وأيضا تحتاج لنشر ممارسات الزراعة الحضرية على نطاق واسع بحيث يمكن توفير حماية إضافية من ازدياد درجات الحرارة المتوقعة وفى نفس الوقت توفير نسبة لا يستهان بها من الطعام الحالى من الكيماويات محليا.
تحتاج أيضا تلك المدن التى تحترم الطبيعة والإنسان الأكثر إلى تقنيات أفضل وأبسط للمحافظة على جودة مصادر المياه وأيضا معالجة المياه الناتجة بعد الاستهلاك باستخدام وسائل ونباتات طبيعية، كما تحتاج إلى وسائل مبتكرة لإنتاج الطاقة المتجددة يمكنها مثلا استخدام أسطح المبانى الكثيرة وربطها معا بحيث يمكن توليد جزء كبير من الطاقة محليا، كما تحتاج للاهتمام بعزل حرارى أفضل للمبانى ونشر وسائل لتعزيز التهوية الطبيعية، ولأن الذكاء هنا يعتمد على تقليل الفاقد إلى ما يقارب الصفر فإنها أيضا تحتاج إلى نشر وتحفيز تدوير المخلفات أو جزء كبير فى مكانها.
هناك الكثير مما هو مطلوب للمدن لكى تكون أكثر مراعاة واحتراما للطبيعة والبشر ولنبدأ بنبذ استخدام تلك الأوصاف التى يسمى بها البعض أجزاء من المدن والمشروعات العمرانية الجديدة فى مصر وكأن باستخدامها تنتقل بصورة آلية لمصاف المدن الأكثر تقدما.