تعانى «منظّمات المجتمع المدنى» أو «المنظمات غير الحكومية» فى المنطقة العربية اليوم من حالة تساؤل وجودية. إن نشاط الكثير منها كان مرهونا بتمويلات تأتى من «صناديق خيرية» أمريكية أو أوروبية، أو حتى من المؤسسات الرسمية لهذه البلدان ذاتها. وهذا لم يكن بعيدا عن واقع أنّ أعدادها وأعمالها نمت بشكلٍ كبير. إلا أن مفترق الطرق الذى استجد مع ما يحدث فى غزة وحولها وضعها أمام تحديين كبيرين. إذ كيف يمكن لها وهى التى تدافع عن قضايا إنسانية و«ديموقراطية» أن تأخذ تمويلا من دولٍ باتت متهمة من قبل محكمة العدل الدولية بالشراكة فى جريمة إبادة جماعية؟ وكيف ستتعامل مع خفض تلك الصناديق والمؤسسات أصلا لتمويلاتها بشكل كبير، كى تُكرِّس أغلبها نحو الصراع فى أوكرانيا أو الشرق الأقصى؟
• • •
الجمعيّات الخيريّة ليست جديدة على المنطقة العربية. فهى متواجدة منذ القدم بهدف التعاضد الاجتماعى خاصة على شكل الأوقاف الذريّة غير المخصصة للأغراض الدينية الإسلامية والمسيحية وغيرهما، بل لإعانة الفقراء والمدارس التعليمية والمشافى والمكتبات وغير ذلك. وهيكلتها تقوم أساسا على تحديد مصدر التمويل، كعقار مثلا، وغاية الإنفاق وطرق الإدارة. كما أن الجمعيات المهنية ليست جديدة، منذ مختلف «أصناف» المهن فى العصور الإسلامية.
فى ما بعد النهضة العربية فى أواخر القرن التاسع عشر، نشأت الأحزاب السياسية والجمعيات «المدنية» بعيدا عن إطار «التشريع» الدينى المتوارث. وقامت الدول الحديثة بقنونتها، ولكن مع الكثير من القيود لاحقا مع واقع الاستبداد الذى ساد فى كثير من الدول العربية. هكذا ظهر مفهوم «المجتمع المدنى» كفضاء فى مواجهة السلطات القائمة وكمقابل للدولة، وبرز دوره أكثر بعد تطورات «الربيع العربى» الاجتماعية والسياسية.
مفهوم «المجتمع المدنى» ليس جديدا أيضا. لقد استخدمه أرسطو للدلالة على تنظيم المجتمع لذاته، سياسيا، للمدينة ــ الدولة. لكنّه تحوّل بعد عصر الأنوار كى يضحى تسمية للفضاء الاجتماعى بين الفرد والأسرة وبين الدولة. لكنّ اللافت هو استخدامه بقوّة ليس حقّا فى الغرب حيث نشأ، بل من قبل هذا الغرب للفضاءات التى دعمها لزعزعة الأنظمة الشيوعيّة فى أوروبا الشرقيّة حتّى انهيارها، ثمّ مع انتصار الليبرالية المعولمة لتقويض دولة الرعاية الناشئة فى بلدان العالم الثالث وفرض تقليص الإنفاق الحكومى على التعليم والصحة والخدمات العامة لتحويل استثماراتها وإدارتها نحو القطاع الخاص و«المجتمع المدنى».
وقد نمت منظمات وجمعيات «المجتمع المدنى» بشكل متسارع مع نمو وسائل التواصل الحديثة وشبكات العلاقات العابرة للحدود، وظهور استخدام القوى الكبرى للمنظمات غير الحكومية كوسيلة لفرض النفوذ «بالقوة الناعمة» والتشكيك المستدام بالدولة كمؤسسة يُمكِن أن تكون ناجِعة. لكنّ هذه «الطلقة السحرية» للعولمة، كما وصفها هيولم إدواردز، لم تخدع حركة مناهضتها التى انتشرت شعبيا على الصعيد العالمى لفترة، ثمّ انطفأت. إلا أن الأمم المتحدة ومؤسساتها انخرطت ضمن نموّ هذه المنظّمات المتضخِّم عالميّا دون أن تضع حقا، كما يُفترَض بها، إطارا واضحا لتعزيز شفافيتها وأصول محاسبتها.
بالتالى تمّ انتقاد منظمات المجتمع المدنى العالمية والمؤسسات التى تمولها على أنّها تقوم بالوظيفة التى قامت بها البعثات التبشيريّة فى العالم الثالث زمن الاستعمار. وقامت بتلك الوظيفة ــ بحجة الدعم الإنسانى وبفعل إهمال الدول لتنمية الأطراف والانقسامات الاجتماعية ــ بدور كبير فى زعزعة الاستقرار فى السودان مثلا ودفعه إلى التقسيم والفوضى.
ثمّ نشطت «المنظّمات غير الحكوميّة» فى العراق وجميع دول محيطه بُعيد الغزو الأمريكى، ونشأت المئات منها مقابل إنشاء السلطات القائمة لمنظّمات مماثلة تهيمن عليها مباشرة، وتستخدم هى أيضا هذه «القوة الناعمة» وتقوّض هى أيضا دور الدولة التى تقوم عليها. حلّ بعد ذلك «الربيع العربى» والانتفاضات الشعبية، التى افتقدت للقوى الجماهيرية المنظّمة ــ رغم استثناء الاتحاد العام للشغل فى تونس ــ التى كان يُمكِن تأخذ هذه التحرّكات نحو تفاوض مع السلطات القائمة لـ«عقد اجتماعى» جديد يتجنّب الانجرار نحو الحروب الأهلية كما حدث فى الواقع.
مع تفجّر الصراعات، برّرت ضرورة إغاثة الأشخاص النازحين واللاجئين والمتضرّرين توسّع انتشار الجمعيات المحلية أكثر، حتّى تلك غير الإغاثية. إلا أن تمويل الإغاثة خارجيا لا يُمكِن أن يستمر لعقود وعقود، خاصة فى ظل انسداد الآفاق السياسية للخروج من الصراع وهشاشة الدول، وتفلُّت قوى الأمر الواقع وسيطرتها على الأرض. ممّا أدّى فى النهاية إلى إحباط «صناديق» تمويل التنمية والدفع نحو «الديموقراطية»، وغير ذلك من الأهداف... «المدنية».
• • •
أكبر انتشار للجمعيات برز فى لبنان بفعل تمتّعه بنوعٍ من الحريّات العامّة. إلا أن هذا الانتشار لم يأخذ إلى تعبئة جماهيرية واسعة ضاغطة، للمحاسبة عن الانهيار المالى ولدفع الإصلاحات، وتحديد المسئوليات عن انفجار مرفأ بيروت، والدفاع عن اللاجئات واللاجئين السوريين، أو غيرهم، تجاه سلطات بلادهم والسلطة القائمة فى لبنان. وبقى «المجتمعان المدنيّان» اللبنانى والسورى فى لبنان منعزليْن عن بعضهما البعض رغم أن قضيّتهما مشتركة سواء لتأطير التواجد فى لبنان أو لعودة الأشخاص اللاجئين إلى بلدهم الأم.
كذلك انتشرت المنظمات فى جميع مناطق الانقسام السورى، لكنها لم تجسّد حالة تمثّل مصالح المجتمع المحلى، المقيم كما النازح الداخلى، تجاه السلطة المركزية كما قوى الأمر الواقع وكذلك فى مواجهة أجندات المانحين. ونشطت أكثر فى دول اللجوء، دون التواصل والتنسيق حقيقة مع المنظمات المحلية هناك، فى تركيا مثلا. والوضع أقسى فى فلسطين، حيث ألغَت حرب الإبادة الجماعية جميع أسس عمل منظمات الأمم المتحدة، فما بالنا بـ«المنظمات غير الحكومية» المحلية والدولية.
وكما فى الجامعات الغربية، فُرِض على أغلب ناشطى منظمات المجتمع المدنى العربية ألا يتحدثوا عن غزة أو فلسطين أو الإبادة الجماعية. وتم أخذ البعض منها، خاصة تلك التى ترسّخت فى الدعم الطبى، للعمل فى أوكرانيا، وليس إلى السودان مثلا أو فلسطين حيث الكارثة أفدح. وانخفضت التمويلات بشكل كبير. فعلقت تلك المنظمات بين استبداد السلطات القائمة وتلاعبها فى بلدانها وبين استغلال وتلاعب الدول «المضيفة» و«الداعمة».
• • •
لا جدوى من بقاء «المجتمع المدنى» مشكلا من آلاف من الجمعيات الصغيرة كما هى الآن، وألا تبرز بينها تنظيمات جماهيرية تطوعية، كما فى زمن النقابات والأحزاب، بحيث تشكّل قوة ضغط حقيقية تناضل من أجل قضايا وحقوق المجتمع، كل المجتمع ... سياسيا. ولا جدوى فى أن تبقى المنظمات التى تدافع عن الأشخاص اللاجئين بعيدة ومنفصلة عن تلك التى تدافع عن المواطنين والمواطنات، خاصّةً بعد مضى عشر سنوات على اللجوء. ولا جدوى من غض طرف تنظيمات المجتمع المدنى عن مقاصِد ونوايا الداعمين والمموّلين مهما كان غضبهم حيال الانتهاكات التى ترتكبها سلطات بلادهم، خاصة وأن شرط الحرية والاستمرار هو الاستقلالية.
هكذا لا يُمكِن للمجتمع المدنى أن يتغاضى عن السياسة... لأن الدفاع عن المجتمع، كمجتمع وحقوق، هو فى النهاية... السياسة، بكل ما تعنيه هذه الكلمة.