خبرنا نحن العرب تعود الساسة الغربيين على الكذب فى تعاملهم مع شئون وطننا العربى، وعلى الرغم من أن معظم هذه الأكاذيب أصبحت مفضوحة، فإن الساسة الغربيين، وخصوصا فى الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا، ومؤخرا فى ألمانيا يستمرون فى أكاذيبهم، ويتصورون أن هناك من يستمر فى تصديقها، ويطرحون ما يقولون وما يفعلون وكأنه ترجمة للفضيلة وللقيم النبيلة فى عالم السياسة، وهو ما يؤدى إلى فقدان شعوبنا الثقة فى تصريحاتهم ومقترحاتهم لما ينبغى أن يكون عليه الحال فى بلادنا، والأخطر من ذلك أنه يلغى مصداقية أى حوار سياسى معهم يجب أن يستند بالضرورة إلى افتراض الصدق والأمانة وحسن النية لدى أطرافه، وهو ما يدعو أيضا الشباب العربى إلى البحث عن وسيلة أكثر فاعلية من هذا الحوار الذى هو فى حقيقة الأمر حيلة لكسب الوقت لتمرير مشروعات سياسية تتعارض مع مصالح عربية مشروعة.
طبعا لا يفترض كثرٌ أن التزام الصدق هو إحدى سمات الأشخاص المشتغلين بالسياسة. المقصود بالصدق هنا ليس الحقائق الرياضية، ولا النتائج الضرورية لإعمال قواعد المنطق، ولا حتى الاختلاف فى الرأى، ولكن المقصود به التعامل مع المعلومات، وما جرى بالفعل، وتجاهل ما حدث على أرض الواقع. فلاسفة السياسة كما شرحت ذلك هانا أردنت الفيلسوفة ذائعة الصيت التى ولدت فى ألمانيا، وقضت أغلب عمرها بعد ذلك فى الولايات المتحدة، يعتبرون أن الصدق يكون ضحية للمنفعة أو للراحة النفسية، ويستبعدون ضرورة كشف المعلومات التى قد تكون ضارة بالأمن القومى، ولكنهم يستسلمون لكون الصدق ليس من شيم الساسة، وربما يجد البعض تفسيرا لذلك فى فهمهم لما كتبه ماكيافيللى من أن كل وسائل الأمير مشروعة طالما أنها تؤدى به إلى بلوغ غاياته. وإذا كان ذلك يصدق على الساسة فى رأيهم فى كل الثقافات وفى كل العهود، فإن تعود الساسة الغربيين على الكذب هو لافت للانتباه، لأنهم نصبوا أنفسهم دعاة للفضيلة فى العالم، ويدعون دول العالم غير الغربى للاهتداء بنمط سلوكهم وسياساتهم، ويشنون حملة شعواء على الدول التى رفضت نماذجهم السياسية والاقتصادية باعتبار أنها خرجت عن الطريق القويم. ولكن الأخطر من كل هذه الاعتبارات الأخلاقية أن أكاذيبهم لها نتائج، منها رسم حدود دول، وتمزيق دول أخرى، وشن الحروب غير العادلة، والتخلى عن علاج النتائج المدمرة لهذه الحروب، ثم فى الوقت الحاضر التخطيط لمستقبل بعض الشعوب دونما أى اعتبار لرأى مواطنى ومواطنات هذه الشعوب ودونما حتى مشاركتهم فى رسم مستقبلهم تجاهلا للمبادئ التى صدعت بها هذه الحكومات رءوس العالمين، وفى مقدمتها المبدأ المقبول عالميا ومنذ زمن وهو مبدأ حق الشعوب فى تقرير مصائرها.
الابتعاد عن الصدق فى عالم السياسة له صور عديدة منها إخفاء معلومات تتناقض مع السلوك العلنى، والتظاهر بغير الحقيقة، والترويج لمعلومات كاذبة، وإنكار معلومات صحيحة وموثقة، وإذا كان موضوع هذا المقال هو ممارسة الكذب فى السياسات الغربية تجاه الشعوب العربية، فإن ممارسة الكذب شائعة أيضا فى تعامل هؤلاء الساسة مع شعوبهم، وإذا كانت ممارسة الكذب فى مجال السياسة الخارجية قد تكون مفيدة لتعزيز المصالح الوطنية للدول الغربية حتى بتقويض المصالح المشروعة للشعوب ضحية هذه الأكاذيب، وهو ما يستدعى وبشدة أن تدرك هذه الشعوب مقدار الزيف والبطلان الذى تقوم عليه هذه السياسات، فإن ممارسة الكذب فى إطار التفاعلات السياسية الداخلية يهدر شرعية النظم التى أصبح هذا الكذب سمة لسلوك ساستها. يستعرض هذا المقال بعض صور الأكاذيب التى عانت منها الشعوب العربية على امتداد تعاملها مع الساسة الغربيين.
خديعة وعود الساسة البريطانيين للعرب بدعم قيام دولة عربية واحدة فى المشرق العربى
أخطر هذه الأكاذيب فى تاريخنا العربى المعاصر هو تلك الوعود التى قدمتها دوائر الاستخبارات البريطانية فى أثناء الحرب العالمية الأولى للثوار العرب من أعضاء جمعية العهد والتى ضمت مثقفين وضباطا عربا بالجيش العثمانى، وللأمير حسين شريف مكة بمساعدتهم على قيام دولة عربية واحدة فى المشرق العربى إن هم ثاروا على الدولة العثمانية. التزم الثوار العرب بما تعهدوا به وكان له أثره فى هزيمة الجيوش العثمانية وسهولة سيطرة البريطانيين على الأقاليم العربية التى كانت تحت سيطرتها، طبعا دون أن يعلموا بالمفاوضات البريطانية الفرنسية الروسية التى انتهت بتوقيع اتفاقات سايكس بيكو فى ١٩١٦ التى قسمت المشرق العربى إلى أربع دول هى العراق وشرق الأردن اللتين آلتا لبريطانيا، وسوريا ولبنان اللتين انفردت بهما فرنسا، وحصلت بريطانيا على مسئولية الانتداب على فلسطين فى ١٩٢٠ بعد أن كانت وعدت الصهاينة البريطانيين بأن تصبح فلسطين وطنا قوميا لليهود فى نوفمبر ١٩١٧. وسهلت السلطات البريطانية هجرة اليهود إلى فلسطين وإن ادعت قبيل الحرب العالمية الثانية وفى ظل الثورة الفلسطينية الكبرى ١٩٣٦ــ١٩٣٩ تقييد هذه الهجرة وبدون فعالية تذكر.
هكذا كانت هذه الخديعة البريطانية أحد جذور تقسيم الوطن العربى إلى دول قطرية قبل أن تكون الولاءات القطرية قد تكونت فى هذه الوحدات، وبدونها ما كان الشعب الفلسطينى قد فقد نصف وطنه تقريبا قبل انتهاء الانتداب البريطانى فى ١٥ مايو 1948. لولا هذه الخديعة ما كانت قد قامت إسرائيل، والتى عرضت على الحركة الصهيونية مواقع أخرى لها فى الأرجنتين وأوغندا طبعا دون استشارة سكانها. طبعا كل هذا جرى أيضا بعد أن أعلن ويلسون رئيس الولايات المتحدة مبادئه الأربعة عشر فى ١٩١٤، وفيها حق تقرير المصير، والتى انخدع بها كثرٌ فى مصر وفى الصين بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى.
الخديعة الثانية: السعى لحل الخلاف حول تأميم قناة السويس من خلال مؤتمر دولى
الصورة الثانية لإخفاء الحقائق هى دعوة مصر لحضور مؤتمر دولى فى لندن للتوصل لحل سلمى لأزمة تأميم مصر لشركة قناة السويس، وقد انعقد هذا المؤتمر بالفعل فى ١٩ سبتمبر ١٩٥٦، وانتهى إلى عدة قرارات منها طرح قضية التأميم على الجمعية العامة للأمم المتحدة للتوصل إلى حل لهذه الأزمة، وذلك فى نفس الوقت الذى كانت تستعد فيه بريطانيا وفرنسا بالتواطؤ سرا مع إسرائيل لشن هجوم مسلح على مصر بدعوى وقف العمل العسكرى الذى تبديه إسرائيل والذى تتظاهران بأنه يهدد الملاحة فى قناة السويس. وقد تكشف هذا التآمر فيما بعد. والمثير للتأمل أن جمال عبدالناصر عدو الاستعمار البريطانى لم يتصور أن الدبلوماسية البريطانية يمكن أن تكذب، فهو الذى تلقى تعليمه العسكرى على يد ضباط بريطانيين لم يكن يتصور أن «الجنتلمان» البريطانى يمكن أن يكذب وينساق إلى الخديعة.
الخديعة التى لم تنطلِ على أحد: ادعاء امتلاك العراق لأسلحة دمار شامل كمبرر لشن حرب على العراق فى فبراير 2003
ثم كان اختلاق معلومات عن امتلاك العراق لأسلحة دمار شامل كمبرر لشن هجوم عسكرى على العراق، وهى أكذوبة رددها كولن باول وزير الخارجية الأمريكى أمام مجلس الأمن فى جلسة شهيرة فى ٨ نوفمبر ٢٠٠٢ ردد فيها الادعاء بأن المخابرات الأمريكية لديها معلومات بامتلاك العراق برنامجا لأسلحة الدمار الشامل يهدد دول المنطقة، وهو ما كذبه فى نفس الجلسة ماكس بليك رئيس فريق التفتيش على برنامج أسلحة الدمار الشامل فى العراق والذى عينته الأمم المتحدة والدكتور محمد البرادعى الذى كان مسئولا عن التفتيش عن برنامج نووى عراقى، وعلى الرغم من احتلال الولايات المتحدة للعراق والذى استمر بصورة كاملة ثمانى سنوات حتى ٢٠١١، فلم تكتشف كل الأجهزة الأمريكية أى عناصر لهذا البرنامج. ومما يدعو للسخرية أن رئيس الوزراء البريطانى أنتونى بلير شارك بحماس فى ترديد هذه الأكاذيب حتى إنه ادعى نقلا عن رسالة ماجستير حافلة بالأخطاء أن العراق فى ذلك الوقت امتلك صواريخ يمكن أن تصل إلى لندن فى خلال خمس وأربعين دقيقة، وهو ما لم يقم عليه أى دليل.
أخيرا مهرجان الأكاذيب حول الهمجية الإسرائيلية فى غزة
لاشك أن الإدارة الأمريكية على لسان الرئيس جو بايدن وجون كيربى المتحدث باسم مجلس الأمن القومى الأمريكى قد تفوقت على كل الإدارات الأمريكية السابقة فى تبنى كل ما يتفتق عن ذهن آلة الدعاية الإسرائيلية بشأن ما جرى فى غزة يوم ٧ أكتوبر وما ارتكبته القوات الإسرائيلية من مذابح بإنكار كل ما أصبح معروفا وثابتا لدى الرأى العام العالمى ولدى أجهزة الحكومة الأمريكية ذاتها. أعرب الرئيس الأمريكى فى إسرائيل عن حزنه لقيام رجال حماس بقتل مولودين صغار، وهو ما لم تثبت صحته، وبرر الرئيس الأمريكى ذلك بأنه كان بناء على معلومات قدمها له رئيس الوزراء الإسرائيلى ثم ادعى أن أجهزة الاستخبارات الأمريكية قد أبلغته بأن مئات القتلى فى انفجار مستشفى المعمدانى هو نتيجة انفجار قنبلة أطلقتها منظمة الجهاد الإسلامى، وثبت من تقارير خبراء أن كل المنظمات الفلسطينية المسلحة لا تملك قنبلة بهذه القوة لأن كل ضحايا صواريخها التى أطلقتها على إسرائيل لم يصلوا إلى مئات عبر سنوات من إطلاق هذه الصواريخ. ثم أعلن الرئيس الأمريكى أنه لا يصدق أرقام الضحايا فى غزة التى تصدر عن حكومة حماس وهو ما كذبته أجهزة الحكومة الأمريكية ذاتها فضلا عن منظمات الأمم المتحدة، وتظاهر جون كيربى بأن رجال حماس يحولون دون هجرة الفلسطينيين إلى أماكن آمنة، متجاهلا أنه لا وجود أصلا لهذه الأماكن الآمنة لا فى شمال غزة ولا فى جنوبها وأن آلة الحرب الإسرائيلية ليست لها خطوط حمراء، وأعلنت الإدارة الأمريكية ذاتها أنها لا تضع مثل هذه الخطوط لما تقوم به إسرائيل فى غزة.
ترديد الأكاذيب فى السياسة الداخلية
هل لنا أن نلتمس العزاء فى أن ترديد الأكاذيب أصبح عادة مستأصلة لدى الساسة الغربيين، وحتى فى وسائل إعلامهم؟ أنكر ريتشارد نيكسون الرئيس السابع والثلاثون للولايات المتحدة من الحزب الجمهورى عدم علمه باختراق حزبه لمقر الحزب الديمقراطى فى مبنى ووتر جيت بالعاصمة الأمريكية، وبيل كلينتون الرئيس الثانى والأربعون أنكر ممارساته الجنسية داخل المكتب البيضاوى فى البيت الأبيض مع إحدى المتدربات الشابات فى مقر الرئاسة الأمريكية، كما قدم دونالد ترامب إيصالات تقلل من مكاسبه لإدارة الضرائب الأمريكية لتفادى دفع ضرائب عالية. وكذب بوريس جونسون رئيس الوزراء البريطانى الأسبق بشأن حضوره احتفالا فى مقره الحكومى رغم حظر مثل هذه التجمعات خلال أزمة وباء كوفيد ١٩. ليس ذلك سببا لشعورنا بالعزاء لأن قواعد الحكم فى هذه الدول تجعل من الممكن مساءلة من يردد مثل هذه الأكاذيب وحمله على دفع الثمن سواء باضطراره للاستقالة كما فى حالة ريتشارد نيكسون أو اعترافه علنا بالكذب فى حالة بيل كلينتون، أو فقدان تأييد حزبه فى حالة بوريس جونسون، ولكن شعوبنا تفتقد الوسيلة لمحاسبة هؤلاء الساسة الغربيين على خديعتهم لشعوبنا، خاصة وأن ثمن الخديعة كان باهظا فى حالتنا؛ تقسيمنا إلى دول ودمار لا يسهل إصلاحه عندما يشنون علينا الحروب، ومجزرة لا نجد نهاية لها فى حالة الشعب الفلسطينى فى أراضيه المحتلة.
لماذا يكذبون؟
هل يعود كذب الساسة فى الغرب وغيره إلى أن الكذب هو عادة يستحسنها الساسة لكسب الرأى العام أو لخديعة خصومهم؟ وأنها تتفق مع تصور البعض أن السياسة هى «لعبة قذرة»؟ أم أن هناك أسبابا أخرى يأتى فى مقدمتها المصلحة التى يحققها الساسة بالكذب؟ جيمس كارتر الرئيس الأمريكى التاسع والثلاثون ذكر أن أعضاء الكونجرس الأمريكى يعرفون الحقائق عن القضية الفلسطينية ولكنهم لا يجرءون على ذكرها خوفا من نفوذ إيباك التى تقود اللوبى الصهيونى فى الولايات المتحدة والتى يمكن أن تعاقبهم بإسقاطهم فى الانتخابات، وهو ما أكدته دراسة علمية موثقة للأستاذين الأمريكيين المرموقين جون ميرشايمر وستيفن وولت. مصلحة الساسة ومصلحة بلادهم هى السبب الرئيسى فى اعتيادهم على الكذب، ولكن هذا التعود والذى أصبح الرأى العام على وعى به يقوض ثقة الرأى العام فى مؤسساته السياسية، ويجعل الشعوب فى الأراضى المحتلة يبحثون عن سبيل آخر للتحرر بعيدا عن الحوار مع من تعودوا على الخديعة.