حديث المؤامرة يلاحقنا فى كل مكان، على صفحات الجرائد، وفى البرامج الحوارية على شاشات التليفزيون، وفى تصريحات السياسيين، وحتى فى قاعات المحاكم، وفى مناقشات السياسة بين المواطنين. المؤامرات وراء كل ما يجرى فى وطننا العربى. تمزق الدولة فى العراق وسوريا هو مؤامرة، ثورات الربيع العربى مؤامرة، تاريخنا الحديث كله نتيجة مؤامرات، من توقيع اتفاقية سايكس بيكو فى سنة 1916 حتى ثورة 23 يوليو فى سنة 1952. ليست هناك حاجة لتدعيم هذا الادعاء من جانب من يقولون بوجود مؤامرات وراء كل هذه الأحداث، فما يعتبر وقائع يجرى تطويعه لكى يتسق مع التفسير التآمرى للتاريخ.
ولا يسعفنا الأكاديميون بنفى أو بتأكيد هذا التفسير التآمرى للتاريخ. هناك من يرفضه تماما، وهناك من يقبله. وفى رأى الكاتب لاشك أن هناك مؤامرات مؤكدة نعرفها فى تاريخنا الحديث، أى أن هناك خططا شاء لها من رسموها أن تبقى قيد الكتمان، وقاموا بتنفيذها. طبعا هذا دور أساسى لأجهزة المخابرات فى كل دول العالم، ولكن الذى يعنينا هو ما يقوم به قادة الحكومات وزعماء الأحزاب والحركات السياسية. من أشهر هذه المؤامرات فى تاريخ مصر الحديث التخطيط للعدوان الثلاثى فى صيف سنة 1956، كانت هناك اتفاقات سرية بين رئيسى الوزراء البريطانى والفرنسى، وربما كشفت تصريحاتهما عن نيتهما للهجوم على مصر لاستعادة السيطرة على قناة السويس بعد أن أممها الزعيم جمال عبدالناصر، ولكنهما بوساطة رئيس الوزراء الفرنسى اتفقا سرا مع إسرائيل على أن تشاركهما فى هذا الهجوم، وانكشف هذا الاتفاق السرى مع إسرائيل بعد شهور من الهجوم الثلاثى الفاشل على مصر. وهناك أيضا المؤامرة التى تورط فيها كل من ديفيد بن جوريون وموشى دايان من القادة الإسرائيليين خارج الحكومة فى سنة 1954 وبدون علم وزير الدفاع إسحق لافون ورئيس الوزراء الإسرائيلى موشى شاريت فى ذلك الوقت، وذلك للإساءة إلى علاقات مصر بكل من الولايات المتحدة وبريطانيا وكانت قد تحسنت فى أعقاب توقيع اتفاقية الجلاء فى ذلك العام، من خلال تجنيد يهود مصريين للقيام بتفجير منشآت أمريكية وبريطانية فى القاهرة، وهو ما اكتشفته أجهزة الأمن فى مصر، ولكن دون أن تصل إلى كل أبعاد هذه المؤامرة.
•••
هذا صحيح. هناك مثل هذه المؤامرات التى تكشف عنها وقائع محددة، ولكن القفز من ذلك إلى ادعاء وجود مؤامرة وراء كل ما يحيط بنا من أحداث كبرى هو ادعاء لا تسنده أدلة ملموسة، بل إنه فى بعض الحالات يتناقض تماما مع ما نعرفه، ومع منطق السلوك الإنسانى. وقد يكون تصديق وجود مؤامرة مقبولا من جانب الرأى العام عندما لا تتوافر معلومات كافية وخصوصا عندما يبدو سلوك بعض الفاعلين السياسيين مفتقدا للرشادة. طبعا تقدير الرشادة يختلف من فرد لآخر، وقد تتناقض رشادة السلوك الفردى مع رشادة السلوك الجماعى. ما قد يبدو سلوكا رشيدا من جانب من انضموا إلى ما يسمى بالدولة الإسلامية فى العراق والشام يتناقض مع مصلحة العراقيين كأبناء دولة واحدة، والرشادة من وجهة نظر حماس قد تتناقض مع مصلحة الحركة الوطنية الفلسطينية فى الوحدة الفلسطينية. وهذه أمور بالغة الوضوح، ولكن عندما يصر أعضاء داعش على سلوك يضر بمصلحة العراق كوطن وبصورة الإسلام الذى يدعون رفع رايته، وعندما يصر قادة حماس على رفض التنسيق مع السلطة الفلسطينية على نحو يحقق مصلحة الفلسطينيين جميعا فلا يكون أمام الرأى العام إلا تصديق أن وراء السلوك الذى يفتقد العقلانية مؤامرة وراءها أعداء الإسلام فى حالة داعش ووراءها قطر وتركيا وربما إسرائيل فى حالة استمرار النزاع بين حماس وفتح.
•••
قد يكون ذلك مفهوما عندما يتعلق الأمر بالرأى العام، ولكن هناك حالة يتعمد فيها قادة سياسيون وحكوميون ادعاء وجود مؤامرة قفزا على الحقائق بل وبالكذب بلوى بعض الوقائع وتفسيرها على نحو لا يستقيم مع حقائق مؤكدة. هذا هو المقصود بالتوظيف السياسى لنظرية المؤامرة خدمة لمصالح ضيقة منها التهرب من المسئولية عن ممارسات خاطئة بل وشائنة من جانب هؤلاء القادة، وبإلقاء المسئولية عنها على عاتق فاعلين آخرين، أو لأن هؤلاء السياسيين لا يريدون. ولا يريدون لأتباعهم الاعتراف بدورهم فيما آلت إليه أحوالهم.
وهناك العديد من الأمثلة التى تؤكد هذا الميل للاستخدام السياسى لنظرية المؤامرة فى واقعنا العربى والمصرى الحاضر. خذ مثلا هذا الادعاء بأن الولايات المتحدة هى التى تتآمر من أجل تمزيق الدول العربية بصراع الميليشيات فى ليبيا، وباتساع سيطرة داعش فى العراق وسوريا، بل وهى التى تآمرت لإسقاط النظم الاستبدادية فى تونس ومصر واليمن وسوريا والبحرين. هذا الادعاء يفترض أن الولايات المتحدة قادرة على تحريك الأحداث فى كل أنحاء العالم وخصوصا فى العالم العربى وأننا نعيش فترة ازدهار الهيمنة الأمريكية على العالم. ما رأيك عزيزى وعزيزتى من القراء فى أن النقاش الذى يدور الآن فى الولايات المتحدة هو حول انكماش القيادة الأمريكية للعالم فى ظل رئاسة أوباما الذى يهتم أساسا بالأوضاع الداخلية، وأن نفوذ الولايات المتحدة قد انحسر فى العالم العربى والشرق الأوسط عموما وذلك بسبب تركيز إدارة أوباما على المصالح الأمريكية فى الشرق الأقصى، وأن أوباما يتجنب التورط فى الصراعات الإقليمية. هل لا يدرك منتقدو أوباما من داخل حزبه وخارجه أن هناك أيادى خفية للولايات المتحدة تحرك الأحداث فى كل أنحاء العالم، أم أنهم يعرفون على وجه اليقين أن مثل هذه الأيدى التى يزعمها سياسيون وإعلاميون عرب لا وجود لها فى واقع الأمر.
خذ أيضا هذا الادعاء بأن الولايات المتحدة قد تآمرت لإسقاط حسنى مبارك فى مصر وأنها هى التى دربت شبابا مصريا على التظاهر للإطاحة بنظامه. ما رأيكم فى أن الولايات المتحدة فى بداية الثورة، ووفقا لما قالته وزيرة الخارجية الأمريكية، تثق فى قدرة مبارك على إدخال الإصلاحات التى يريدها المصريون وهو ما أكده السفير الأمريكى الأسبق فى القاهرة فرانك ويزنر والذى كان مبعوث الإدارة الأمريكية لتفقد الأحوال فى مصر أثناء الثورة. ولم تتحرك الولايات المتحدة لمناصرة الثورة على مبارك إلا بعد أن بدا أن بقاء نظام مبارك أصبح مستحيلا، وهو ما أثار بالمناسبة غضب كل من إسرائيل والمملكة العربية السعودية اللتين كانتا تمارسان ضغوطا على الإدارة الأمريكية لمساندة نظام مبارك فى تلك الظروف، وما رأيكم فى أن كل ما كان يطمح له كل من أحمد ماهر (وهو فى السجن بالمناسبة) ووائل غنيم (وهو خارج مصر بالمناسبة) كان مظاهرة كبرى تطالب بالإفراج عن المسجونين السياسيين ووقف التعذيب فى السجون وإقالة وزير الداخلية. وقد فوجئا بانضمام ملايين من المصريين تلقائيا لهذه المظاهرات التى خططا لها. طبعا عندما يقال إن ثورة يناير كانت نتيجة مؤامرة أمريكية فالمراد أن ننسى تزوير انتخابات 2010، وتردى الخدمات العامة وتغول كبار رجال الأعمال فى توجيه السياسة فى مصر على عهد مبارك.
كما يردد قادة الإخوان المسلمين خارج السجن أن سقوط حكمهم فى مصر كان نتيجة مؤامرة أمريكية، ويردد آخرون أن وجودهم فى الحكم هو المؤامرة الأمريكية. الأولون لا يريدون الاعتراف بأن قطاعات واسعة من المواطنين خرجت ترفض حكمهم فى 30 يونيو 2013، وأن إقصاء القوى السياسية الأخرى ومحاولة محمد مرسى تحصين أعماله ضد حكم القانون وعدم تأهل الإخوان لممارسة مهام الحكم هو الذى أدى إلى السخط الشعبى العارم عليهم.
والآخرون لا يريدون الاعتراف بأن النجاح الانتخابى للإخوان هو نتيجة براعتهم التنظيمية وتواجدهم بين المواطنين.
وهكذا يا أعزائى القراء علينا التنبه عندما يجرى حديث عن مؤامرة حولنا. نحن المسئولين عما يجرى لنا، والذى يتحدث عن مؤامرة يكذب علينا لأنه يريد التملص من مسئوليته عن عجزه أو عن أخطائه.